time GMT

عنوان الموضوع

نبذة عن الموضوع

عنوان الموضوع

نبذة عن الموضوع

عنوان الموضوع

نبذة عن الموضوع

عنوان الموضوع

نبذة عن الموضوع

عنوان الموضوع

نبذة عن الموضوع

الاثنين، 25 يونيو 2012

التغيب المدرسي بين المقاربة التشريعية والتربوية



إن مشكلة غياب التلميذات و التلاميذ – التسرب الجزئي والمؤقت والقصير المدى_ عن المدرسة من أهم المشكلات التربوية، لأنها تؤثر في غيرها من المشكلات مثل الرسوب وغيرها . ونعني بها التوقف المؤقت والمتكرر للطالب عن المدرسة بصورة غير طبيعية. ونستطيع القول بكثير من التأكيد أن فعل « الغياب « في صفوف التلاميذ و التلميذات عن الفصول الدراسية، بات يعرف مسارا « خطيرا « و مقلقا عما كان عليه بالأمس القريب، و أمسى ظاهرة تستوجب التوقف و التأمل و البحث و التقصي.. لكونها فرضت نفسها بقوة بدلالاتها الرمزية العميقة في الآونة الأخيرة، في وقت أصبح المتتبع للشأن التربوي يلمس اهتماما بالغا و « مبالغا فيه « بمسألة غياب الطرف الآخر من العقد البيداغوجي؛ الأمر يتعلق بالمدرس (ة)، في شكل إصدار مذكرات وزارية تشير بأصبع الاتهام إليه بحجة أنه المسئول عن هدر الزمن المدرسي و بالتالي بات لزاما تأمين هذا « الزمن « وفق خطة تقتضي تدخلات مختلفة الجوانب، تسعى إلى تمكين المتعلمين و المتعلمات من حقهم الكامل في التربية و ضمان استفادتهم من الحصص الصفية المبرمجة و مختلف الأنشطة الداعمة المرتبطة بها في ظروف تربوية مناسبة.
طبيعة المشكلة/الظاهرة
يفيد غياب التلميذ عن المدرسة؛ عدم تواجده بها خلال الدوام الرسمي المعلن عليه في استعمال الزمن، أو جزء منه ، سواءً كان هذا الغياب من بداية اليوم الدراسي ، أي قبل وصولهم للمدرسة أو كان بعد وصوله للمدرسة والتنسيق مع بعض زملائه حول الغياب ، أو حضوره للمدرسة والانتظام بها ثم مغادرته لها قبل نهاية الدوام دون عذر مشروع.
وإذا كان غياب التلميذ في بعض الأحيان بسبب مقبول و مبرر لدى أسرة التلميذ، كالغياب لأجل مهام منزلية بسيطة كالأعمال المنزلية المفروضة أحيانا على الفتيات بوجه خاص أو بسبب عوامل صحية يمكن التغلب عليها أو بسبب عوامل أخرى غير ذات تأثير قوي ولكن يجدها التلميذ فرصة للغياب ، فإن ذلك لا يعتبر مقبولاً من ناحية تربوية لأن تلك الظروف الخاصة يمكن التغلب عليها ومواجهتها بحيث لا تكون عائقاً في سبيل الحضور إلى المدرسة التي يفترض أن تكون مدرسة « مضيافة « Ecole conviviale.
من نافلة القول أن ظاهرة غياب التلميذات و التلاميذ عن المدرسة و الحصص الدراسية من الظواهر النفسية والتربوية والاجتماعية الهامة، لذلك، و كأي ظاهرة من الظواهر اللاتربوية، وجب تحديد الأسباب الكامنة ورائها و رصد للدوافع الرئيسة التي تسهم في تفشيها، ثم البحث عن الحلول و البدائل الكفيل بعلاجها و التصدي لها.
الأسباب
أولاً؛ العوامل الذاتية
و هي عوامل تعود للتلميذ (ة) ذاته و تتجسد في:
· شخصية التلميذ (ة) و تركيبته السيكوعاطفية و ما يمتلكه من استعدادات و قدرات و ميولات تجعله لا يقبل على العمل المدرسي و لا يتقبله؛ مما يستدعي تدخل علم النفس المدرسي.
· الإعاقات Handicaps أي جميع أنواع القصور أو العجز المصاحب لعاهة معينة؛ صحية أو نفسية، و التي تصاحب الطفل/المتعلم و بالتالي تمنعه عن مسايرة الجماعة الصفية التي ينتمي إليها، فتجعله موضع سخرية، فتغدو المدرسة بالنسبة إليه مكانا غير مرغوب فيه.
· الرغبة في تأكيد الاستقلالية و إثبات الذات؛ ففي مرحلة المراهقة مثلا يسعى المراهق إلى السير وفق ما يملي عليه عقله و قلبه و ليس ما يمليه عليه الغير. و نفس الشيء أشار إليه Kant.E حين عرف مفهوم الاستقلال الذاتي Autonomie مرادفا لمفهوم استقلال الإرادة. و من ثم تطفو في السطح مظاهر الاستهتار و العناد في صفوف التلاميذ و كسر الأنظمة و القوانين التي يضعها الكبار ( المدرسة و المنزل ) و التي يلجأ إليها كوسائل ضغط لإثبات وجوده.
ثانيا؛ العوامل المدرسية
و هي طبيعة تعود لطبيعة الجو المدرسي و النظام القائم و الظروف السائدة التي تحكم العلاقة بين عناصر المجتمع المدرسي من مثل؛
· عدم سلامة النظام المدرسي و تأرجحه بين الصرامة و القسوة و سيطرة العقاب كوسيلة للتعامل مع التلاميذ و التلميذات أو التراخي و الإهمال و عدم توافر وسائل الضبط المناسبة.
· سيطرة بعض أنواع العقاب بشكل عشوائي و غير مقنن، كممارسات تقليدية من قبيل كتابة الواجب عدة مرات أو ما يسمى في المدرسة المغربية ب “ العقوبة “ و الحرمان من بعض الحصص الدراسية و التهديد بالإجراءات العقابية كما يقع في الإعداديات و الثانويات مثلا.. و يؤكد ( دوركايم ) بشكل عام أن العقوبة Punition تقوم على إعادة الشيء إلى أصله، و على وضع الشيء في موضعه الصحيح، و على إعادة بناء الربط الاجتماعي و سلطة القواعد. أما كما أن الوزارة الوصية على قطاع التعليم المدرسي بالمغرب بينت في مذكرة وزارية؛ أن العقاب البدني لا يمكن أن يكون وسيلة تربوية ناجعة لتعديل السلوك بسبب الآثار السلبية التي يتركها في نفسية التلميذ، سواء على المدى القريب أو البعيد، والحقد الذي يمكن أن يتولد لديه تجاه المدرسة والمدرسين، مما يخلق أحيانا ردود أفعال مختلفة ضدهم من طرف الأطفال وأوليائهم، فالعقاب البدني ينبغي أن يستخدم في مجال التأديب لا التعليم، و التأديب في اللغة يعني “ التهذيب و المجازاة “, و كل إفراط في تعنيف الممارسة الصفية يؤدي إلى نتيجة واحدة و وحيدة هي؛ الغياب ثم يتطور هذا الفعل من “ الفردي “ إلى “ الجماعي “، ليتخذ بعد ذلك منحى آخر كالانحراف و الانحلال الاجتماعي .
· عدم الإحساس بالحب و التقدير و الاحترام من قبل عناصر المجتمع المدرسي حيث يبقى التلميذ قلقا متوترا فاقدا الأمن النفسي و هو أهم بكثير من أمن الزمن المدرسي.
· شعور التلميذ بعدم إيفاء التعليم لمتطلباته الشخصية و الاجتماعية؛ كما يقع مثلا بمؤسساتنا التعليمية المغروسة في قمم الجبال بالوسط القروي حيث يجد التلميذ نفسه في عالم غريب بعيد كل البعد عن واقعه الذي يعيشه يوميا كإشكالية ازدواجية اللغة على سبيل المثال لا الحصر، حيث أكدت مجموعة من الأبحاث في مجال “ ثنائية اللغة (Bilingualism)” أن اللغة الأجنبية تؤثر على اللغة الأم خاصة في سن مبكرة، كما أن عملية اكتساب و تطور اللسان Langue عند الطفل تؤثر فيها عوامل عدة؛ كالتطور الذهني العام و التفاعل الاجتماعي ، و هو الأمر الذي أصبح يشكل قلقا بالنسبة للممارسين البيداغوجيين الذين يجدون أنفسهم أمام وضعيات ديداكتيكية - لسانية - سوسيوثقافية جد معقدة، و بالتالي نفور “ منطقي “ للتلميذ و غياب “ حتمي “ له من أجواء المدرسة، سواء كان الغياب جسديا أو ذهنيا، فالأمر سيان.
· عدم توفر الأنشطة التربوية الكافية و المناسبة لميول التلميذ و قدراته و استعداداته تلك التي تندرج ضمن التنشيط التربوي و ما له من دور في تحقيق النجاح المدرسي حيث يساعد في حفظ التوتر لدى التلميذ و تحقيق المزيد من الإشباع النفسي.
· كثرة الأعباء و الواجبات المنزلية حيث يعجز التلميذ عن الإيفاء بمتطلباتها و ذلك في غياب تام لاحترام إيقاعاته البيولوجية و استراتيجياته المعرفية الخاصة و نوعية الوسط العائلي الذي ينتمي إليه. وقد اختلفت آراء التربويين حول أهمية و فائدة الواجبات المنزلية، فهناك من يتحمس إليها و هناك من يوصي باستبعادها. و على أي فالإفراط في إثقال كاهل التلميذ بواجبات منزلية فقط من أجل التخفيف من العمل البيداغوجي الرسمي المنوط بالمدرس داخل الحجرة الدراسية، يؤثر سلبا على نفسية الطفل و بالتالي يجعله يفكر في عدم الحضور إلى المدرسة خوفا من التأنيب الذي سيناله من قبل المدرس إن هو لم ينجز الواجب كاملا,
ثالثا؛ العوامل الأسرية
وتتمثل في طبيعة الحياة المنزلية والظروف المختلفة التي تعيشها والروابط التي تحكم العلاقة بين أعضائها ، ومما يلاحظ في هذا الشأن ما يلي:
· اضطراب العلاقات الأسرية وما يشوبها من عوامل التوتر والفشل من خلال كثرة الخلافات والمشاجرات بين أعضائها مما يشعر الطفل/التلميذ بالحرمان وفقدان الأمن النفسي. و تزخر الأدبيات السيكولوجية بالدراسات التي تناولت أساليب المعاملة الأسروية و علاقتها بنمو الشخصية و توافقها النفسي الاجتماعي. و كلها تؤكد أهمية المعاملة الأسروية الايجابية المبنية على الحب و التفهم و التقبل و المرونة في بناء شخصية الطفل و تحقيق الصحة النفسية، كما تبين كذلك الآثار المدمرة لأساليب التربية الأسروية الخاطئة كالرفض و النبذ و القسوة و الجمود في شخصية النشء.
· ضعف عوامل الضبط و الرقابة الأسرية بسبب ثقة الوالدين في الأبناء أو إهمالهم و انشغالهم بالمشاكل اليومية و بالتالي ترك الفرصة للأبناء لاتخاذ قرارات فردية غالبا ما تسهم في الرفع من وتيرة غياباتهم عن الحصص الدراسية و تزج بهم في براثين الحرمان و البؤس الاجتماعي.
·سوء المعاملة الأسرية والتي تتأرجح بين التدليل والحماية الزائدة التي تجعل الطفل/التلميذ اتكالياً سريع الانجذاب وسهل الانقياد لكل المغريات وبين القسوة الزائدة والضوابط الشديدة التي تجعله محاطاً بسياج من الأنظمة والقوانين المنزلية الصارمة مما يجعل التوتر والقلق هو سمة الطفل/التلميذ الذي يجعله يبحث عن متنفس آخر بعيد عن المنزل والمدرسة.
· عدم قدرة الأسرة على الإيفاء بمتطلبات واحتياجات المدرسة ، وحاجات الطفل/التلميذ بشكل عام ، فرغم أن البرنامج الاستعجالي الذي تراهن عليه الوزارة الوصية على قطاع التعليم المدرسي ببلادنا اتخذ بخصوص مواجهة المعيقات السوسيواقتصادية للتمدرس مجموعة من التدابير الرامية إلى ضمان تحقيق تكافؤ الفرص في ولوج التعليم الإلزامي المتجسدة في المبادرة الملكية ( مليون محفظة )، و برنامج ( تيسير ) للدعم المادي المباشر للأسر إلا أن الأسرة المغربية تجد نفسها دائما مكبلة بلوازم إضافية تحت إغراءات السوق خصوصا بالوسط الحضري، مما يدفع التلميذ لتعمد الغياب منعاً للإحراج ومحاولة للبحث عما يفي بمتطلباته .
رابعا؛ عوامل صحية و نفسية
وجد الباحثون في هذا المجال أن أهم الأسباب الصحية المؤدية إلى غياب التلاميذ يعود إلى سوء الحالة الصحية ، والشعور بالصداع نتيجة الانتباه لفترات طويلة في الفصل وعدم كفاية دورات المياه ، ولم يلاحظ الباحثون فروقا ذات دلالات إحصائية بين الجنسين في الأسباب الصحية ، وربما تكون هذه الأسباب نتيجة عدم تفعيل الوحدة الصحية المدرسية بالدرجة الأولى،
و يكفي الإشارة إلى الدفتر الصحي الذي يعتبر وثيقة أساسية في ملف التلميذ حيث تركنه معظم إدارات المؤسسات التعليمية دون أدنى مراقبة، و ناذرا ما يتم ملؤهه بالمعلومات الطبية الخاصة بالتلميذ، و هذه حقيقة بائنة.
كما يمكن الإشارة إلى أسباب نفسية مرتبطة بغياب التلاميذ والتلميذات عن المدرسة، فهناك أسباب يرجع بعضها إلى سوء توافق التلاميذ مع أنفسهم أو مع زملائهم في المدرسة أو مع مدرسيهم تعكس صورة القلق عند التلاميذ و من أمثلة ذلك؛ خوفهم الشديد من الامتحان و التردد عند اختيار الأجوبة المناسبة.
ما الآثار السلبية للظاهرة المدروسة؟
كثيرة هي مظاهر الآثار السلبية لظاهرة غياب التلاميذ و التلميذات و يمكن اختصارها في النقط التالية:
تأخر التلميذ دراسياً مما يؤدي به إلى الرسوب وكره المدرسة والانقطاع عنها؛
تطور ظاهرة الغياب من غياب لاإرادي إلى ما يسمى ب “ نزعة التغيب المدرسي “ Absentéisme scolaire كما أشار إلى ذلك الدكتور عبد الكريم غريب؛
غياب التلميذ قد يكون عبئاً على المجتمع ومصدراً لكثير من المشاكل؛
فشل التلميذ و تعثره دراسيا ثم في الحياة اليومية بطبيعة الحال، فلا غرابة حين يصادف مدرس تلميذ الأمس القريب ماسحا للأحذية أو مساعدا ميكانيكيا.. وهو في سن مبكرة.
غياب التلميذ يسبب هدراً لكثير من المواد التعليمية والتي تنفق عليها الدولة الكثير.
تفشي الجهل والأمية، و هذه الأخيرة هي من أخطر المشاكل التي تواجه الدول النامية في الوقت الحاضر، و تشكل خطرا دائما على شعوبها.
لم يعد مستساغا في مغرب اليوم التغاضي عن فتح نقاش واسع حول آفة غياب التلاميذ و التلميذات، فآثارها السلبية واضحة تجعل الممارسة الصفية تتردى في دوامة « اللافعالية «. و مهما كانت مظاهرها فالنتيجة غير مرضية و تحتاج إلى صياغة إجراءات صارمة للحد منها و التقليل من سلبياتها عبر حلول ناجعة و بدائل مناسبة و اقتراح برامج علاجية مواتية.
معالجة الظاهرة بين التتبع و الصرامة
من الأمور المستفزة أن يسمع المتتبع للشأن التربوي خبرا يفيد ما يلي « يسجل سنويا انقطاع نهائي عن الدراسة لأعداد كبيرة من التلاميذ وتكريس ظاهرة الهدر المدرسي (حوالي 350 ألف تلميذ ينقطعون عن الدراسة ). « لكنها الحقيقة و في أي زمن؟ زمن البرنامج الاستعجالي و الذي يرتكز أساسا على مبدأ جوهري موجه، يقوم على : جعل المتعلم في قلب منظومة التربية والتكوين، وتسخير باقي الدعامات الأخرى لخدمته، من خلال توفير :
·تعلمات ترتكز على المعارف والكفايات الأساسية التي تتيح للتلميذ فرص التفتح الذاتي؛
مدرسين يعملون في ظروف مواتية وعلى إلمام واسع بالطرائق البيداغوجية اللازمة لممارسة مهامهم؛
·تجهيز وتأهيل مؤسسات تعليمية ذات جودة ،توفر للتلميذ ظروفا تربوية مناسبة لتحقيق تعلم جيد.
إذن، صار من المؤكد البحث الجدي عن وضع اليد على مكمن الداء، حيث أن الغياب في أوساط التلاميذ أصبح ظاهرة تستدعي التدخل الفوري لتطويقها، و ذلك لما لها من انعكاسات سلبية على المسار الدراسي للتلميذ، إذ يعتبر الغياب نقطة انطلاق مسلسل يمهد للانقطاع النهائي عن الدراسة كما جاء في الدليل حول محاربة الغياب.
و لمعالجة هذه الظاهرة تشريعيا هناك ثلاث مراحل كبرى:
-المرحلة الأولى: ضبط الغياب عبر عمليتين هما: قيام المدرس بتسجيل المتعلمين المتغيبين في بداية الحصة على ورقة الغياب ( سجل الحضور و الغياب ) ، و كل تقصير من طرفه يتحمل تبعاته لوحده، لكن معظم المدرسين يلجئون إلى استعمال قلم الرصاص لمسح العلامات المسجلة في الدفتر في حالة عودة “ التلميذ الغائب “ سالما، و ذلك من أجل تسهيل عمليات الحساب المئوية، و حتى يرسلها بهذا الشكل 100% السهل في رسالة هاتفية لرئيس المؤسسة. في وقت وجب أن تحرص الإدارة التربوية على تسجيل جميع التغيبات و التبريرات في حينها على بطائق الغياب، و يحبذ اعتماد نظام معلوماتي مساعد كلما أمكن ذلك، الشيء الذي ينفر منه جل المديرين التربويين .
- المرحلة الثانية: معالجة الغياب، و فيها يجب التمييز بين الغياب المبرر و الغياب غير المبرر علما أنه في كلتا الحالتين، يسجل كل أستاذ التلاميذ المتغيبين في بداية حصته على ورقة الغياب، و لا يسمح بقبول أي تلميذ تغيب في حصة سابقة إلا بإذن مكتوب من قبل المسئول الإداري المكلف، علما أن تبرير تغيبات التلاميذ يبقى من اختصاص الإدارة التربوية، فهي وحدها المؤهلة لقبول أو رفض تبريرات الغياب، لكن السؤال الذي يطرح نفسه بكثير من الاستغراب؛ كيف يمكن تطبيق هذا النص التشريعي المدرسي في ضوء ممارسة الإدارة التربوية ضمن نظام المجموعة المدرسية حيث تتناثر الفرعيات المدرسية جغرافيا و تستحيل معها مسألة التنقل اليومي بينها من أجل ضبط هذه العملية من لدن الإداري التربوي.
[ المرحلة الثالثة: يتم فيها اتخاذ مجموعة من الإجراءات سيما على صعيد المؤسسة إذ حددت في ثلاث آليات هي؛
1. آليات الرصد و التتبع: حيث تتحدد في تفعيل و تعميم مكاتب الغياب على مستوى المؤسسة، و ضبط و توحيد مختلف الوثائق المتعلقة بتغيبات التلاميذ، التأكد من استعمال ورقة الغياب و تدوينه بجذاذة التلميذ، نشر أسماء التلاميذ المتغيبين بسبورة تخصص لهذا الغرض، فتح بطاقة للتلميذ الذي تجاوزت تغيباته غير المبررة سقف 5 ساعات في الأسبوع أو 8 ساعات في الشهر، ( و هو الشيء الناذر القيام به من لدن المكلفين بتغيبات التلاميذ و الذي يكتفون بمدهم بورقة صغيرة مازلت تحتفظ باسم متداول فرنسي billet d'excuse )، إشعار أولياء التلاميذ بتغيبات بناتهم و أبنائهم ( لكن الأسلوب الحواري الذي يطغى على هذا الإجراء يختزل في عبارة “ سير جيب باك أولا مك “ و يقفل الملف )، و فضلا عن ذلك، تعد الإدارة التربوية إحصائيات حول ظاهرة الغياب بالمؤسسات، و ترفع تقريرا في الموضوع إلى النيابة الإقليمية، لكن هل يتم استثمار كل تلك الإحصائيات وفق منهج علمي أم أن الأمر يبقى مجرد أرقام منثورة على أوراق مثبتة بدبابيس على لوحات خشبية تزين المكاتب ؟؟ !
2. الآليات الوقائية الزجرية:
ضبط عملية دخول و خروج التلاميذ من المؤسسة؛
× ضمان سير الدراسة قبل و بعد العطل و الامتحانات بحيث بحيث ينبغي استمرار الدراسة، مع منع غياب التلاميذ أثناء عملية التصحيح و مسك النقط ( لكن الواقع الذي تعيشه جل المؤسسات التعليمية عكس ذلك تماما حيث يغادر التلاميذ و التلميذات الفصول الدراسية، بشكل جماعي، قبل الامتحانات بأيام طويلة خصوصا في الإعداديات و الثانويات.
× الحرص على عدم إخراج التلاميذ من المؤسسة في حالة تغيب أحد الأساتذة.
×إشعار الأساتذة بعواقب خروج التلاميذ من الفصل و حثهم تجنب ذاك ما أمكن؛
تطبيق النصوص التشريعية و التنظيمية بشكل صارم فيما يخص فيما يخص التغيبات غير المبررة و المتكررة؛
× تفعيل آليات المجالس الانضباطية لزجر المتغيبين ( دون اللجوء إلى أساليب القمع و التسلط التي لا تجدي نفعا خصوصا مع المراهقين )؛
× ربط قرارات مجالس الأقسام بالغياب خلال المداولة ( لكن الملاحظ هو صورية هذه المجالس و عدم نفعيتها )؛
× برمجة مجالس الأقسام خارج أوقات الدراسة، و بصفة عامة كل الأنشطة التربوية.
× التحسيس بالظاهرة و بتداعياتها لدى الأسر و أولياء التلاميذ .
3. التدابير المصاحبة: و هي عبارة وضع خطة تحسيسية تواصلية مكثفة تشمل كل المكونات المعنية من تلاميذ و جمعيات الآباء و المجلس التربوي و المجالس المنتخبة و الشركاء الاجتماعيين، بالإضافة إلى إشراك التلاميذ بالسلك الثانوي الإعدادي و الثانوي التأهيلي في معالجة الغياب. فضلا عن إجراءات أخرى؛ إذ على الإدارة التربوية أن تعمل على عدم جعل قرار الطرد أو التشطيب قرارا صادرا عنها، بل قرارا يسجل أمرا واقعا، و ينبغي أن تتخذ كافة الإجراءات لاسترجاع المتعلمين المنقطعين عن الدراسة وفقا للقانون ( رغم ما تشوبه هذه العملية من إكراهات عدة لا مجال لذكرها )، مع اتخاذ الإجراءات التأديبية الصارمة في حق كل موظف تثبت مسؤوليته عن الانقطاع و تشجيع التغيبات، و يصبح التشطيب فعليا بقرار من مجلس القسم نهاية السنة الدراسية، لكن يمكن التراجع عنه، كما يحتفظ في ملف المتعلم بجميع المراسلات و بوصلات الرسائل المضمونة المرسلة إلى ولي الأمر.
ومن بين آليات تتبع غياب التلاميذ الراهنة، تساوقا مع النظرة الحديثة التي يترجمها البرنامج الاستعجالي، نجد كذلك عملية إشعار أولياء التلاميذ بتغيبات بناتهم وأبنائهم ( إمكانية استعمال رسائل قصيرة SMS في حالة مكننة تدبير الغياب )، والحرص على عدم إخراج التلاميذ من المؤسسة في حالة تغيب أحد الأساتذة؛ وإشعار الأساتذة بعواقب خروج التلاميذ من الفصل وحثهم على تجنب ذلك ما أمكن، وتطبيق النصوص التشريعية والتنظيمية بشكل صارم فيما يخص التغيبات غير المبررة والمتكررة؛ وتفعيل آليات المجالس الانضباطية لزجر المتغيبين؛ وإحداث (لجنة تدبير الغياب) تابعة لمصلحة الشؤون التربوية تضم بالإضافة إلى ممثلين عن المصلحة المذكورة، ممثلين عن مصلحة تدبير الموارد البشرية، مصلحة الشؤون الإدارية والمالية، مصلحة التخطيط.
معالجة الظاهرة .. بدائل و مقترحات
من أهم ما يمكن اقتراحه ما يلي باختصار:
·دراسة مشكلات التلاميذ و التلميذات الحقيقية والتعرف على أسبابها مع مراعاة عدم التركيز على أعراض المشكلات وظواهرها وإغفال جوهرها ، واعتبار كل مشكلة حالة لوحدها متفردة بذاتها؛
·تهيئة الظروف المناسبة لتحقيق مزيد من التوافق النفسي والتربوي للتلاميذ؛
·خلق المزيد من عوامل الضبط داخل المدرسة عن طريق وضع نظام مدرسي مناسب يدفع التلاميذ إلى مستوىً معين من ضبط النفس يساعد على تلافي المشكلات المدرسية وعلاجها ، مع ملاحظة أن يكون ضبطاً ذاتياً نابعاً من التلاميذ أنفسهم وليس ضبطاً عشوائياً بفرض تعليمات شديدة بقوة النظام وسلطة القانون كما هو شائع؛
·دعم برامج وخدمات التوجيه والإرشاد المدرسي وتفعيلها ( و ليس بطرح المذكرات في سوق المدرس دون تفعيل كما وقع لمذكرة المرشد التربوي مؤخرا ) وذلك من أجل مساعدة التلاميذ على تحقيق أقصى حد ممكن من التوافق النفسي والتربوي والاجتماعي وإيجاد شخصيات متزنة من التلاميذ تتفاعل مع الآخرين بشكل إيجابي وتستغل إمكاناتها وقدراتها أفضل استغلال ؛
·توثيق العلاقة بين البيت والمدرسة لخلق المزيد من التفاهم والتعاون المشترك بينها حول أفضل الوسائل للتعامل مع التلميذ والتعرف على مشكلاته ووضع الحلول المناسبة لكل ما يعوق مسيرة حياته الدراسية والعامة؛ و ذلك بتفعيل الشعارات التي ترفعها الوزارة الوصية على القطاع المدرسي على أرض الواقع و الخروج بها من مجرد كتابات على اللافتات أو جدران المدارس إلى أفعال تربوية ملموسة.
.
تطبيق النظم التشريعية من طرف الإدارة التربوية بكثير من الحزم و الفعالية مع تبني نموذج مرن يضمن توافق العلاقات بين جل الأطراف المتدخل في العملية التربوية، و هذه مسألة تتطلب مزيجا من التجربة و الكفاءة و صلابة الشخصية و اعتدال في اتخاذ القرارات الإداري.
ومهما يكن من أمر فإنه لا يمكن أن تنجح المدرسة في تنفيذ إجراءاتها ووسائلها التربوية والإدارية لعلاج مشكلة غياب التلميذات و التلاميذ وهروبهم إذا لم تبد الأسرة تعاوناً ملحوظاً في تنفيذ تلك الإجراءات ومتابعتها ، وإذا لم تكن الأسرة جدّية في ممارسة دورها التربوي فسيكون الفشل مصير كل محاولات العلاج والوقاية.
بقلم : جمال الحنصالي
أستاذ باحث في علوم التربية /م مدارس اكرض إمنتانوت

الواجبات المدرسية و آثارها والايجابية السلبية



كثرت الطروحات في الادارة المدرسية الحديثة حول الواجبات المدرسية، ما هي أثارها الايجابية والسبية؟ هل هي ضرورية؟ ما مدى فعاليتها على تحصيل الطلبة؟ هل لها مردود على المسار التعليمي التعلمي؟
من هنا لا بدّ من الاشارة الى بعض الآثار الايجابية والسلبية من بعض الزوايا ومدى تأثيرها على الطلبة؟
الآثار الإيجابية:  
من ناحية إلانجاز والتعلم
  إلى الاستذكار والاحتفاظ بالمعرفة الواقعية.
  فهم متزايد. ومواكبة جديدة للمعرفة   تفكير انتقادي وصياغة المفاهيم ومعالجة المعلومات بشكل أفضل.
  ازدياد المعرفة بالمنهاج الدراسي.

من ناحية الفائدة العلمية طويلة الأمد
  التعلم في أوقات الفراغ.
  ميلاً واتجاهاً جيداً نحو المدرسة.
  هوايات ومهارات أفضل للقراءة.
من ناحية الفائدة غير العلمية
  توجيه ذاتي اكبر.
  انضباط ذاتي اكبر.
  تنظيم أفضل للوقت.
  فضول وحب استطلاع اكبر.
  حل المشاكل بصورة مستقلة.
ومن هنا فالنتيجة النهائية ومدى تأثيرها للعلاقة بين المدرسة وأولياء الأمور فإنها: امتنان متزايد وكبير لأولياء الأمور وارتباط اكبر بالمدرسة
أما الآثار السلبية:
  من ناحية الرغبات والميول
  فقدان الاهتمام بالمواد الأكاديمية.
  تعب وإعياء بدني وعاطفي.
  رفض المشاركة بالنشاطات الاجتماعية وفي أوقات الفراغ
من ناحية التدخل الاسري
  الضغط من اجل إنجاز الواجبات المحددة وللأداء بشكل افضل.
  اتباع أسلوب النزاع عند التوجيه.
أما عملية الغش فهي:
  الغش من طلبة آخرين.
  طلب المساعدة من الآخرين في غياب المعلم الخصوصي.
وهكذا فان المردود في ذلك هو أزدياد الاختلافات بين الطلبة ذوي الدخل المتدني و الطلبة من الأسر الغنية.

الأحد، 24 يونيو 2012

الحقائب / الرزم التعليمية



المقدمة: 

تؤكد الاتجاهات التربوية المعاصرة على أهمية التعلم الفردي الذي ينقل محور اهتمام العملية التعليمية من المادة الدراسية إلى التلميذ نفسه ويسلط عليه الأضواء ليكشف عن ميوله واستعداداته وقدراته ومهاراته الذاتية

بهدف التخطيط لتنميتها وتوجيهها وفقا لوصفة تربوية خاصة بكل تلميذ على حدة لتقابل ميوله الخاصة وتتمشى مع حاجاته الذاتية واستعدادات نموه ولتحفز دوافعه ورغباته الشخصية ليتمكن بذلك من الوصول إلى أقصى طاقاته وإمكاناته الخاصة به ومن شأن هذا الاتجاه التربوي الحديث أن يفسح المجال أمام إبراز الفروق الفردية الموجودة بين تلاميذ الصف الواحد وإتاحة الفرصة لكل منهم للانطلاق وفقا لسرعته الخاصة به في التعلم ويستلزم هذا الاتجاه تركيز مخططي العملية التربوية على ما يتمكن كل تلميذ من عمله وممارسته والاندماج فيه وإتقانه بدلا من التركيز على ما يجب أن يتعلمه أو يعرفه أو يحفظه من معارف ومعلومات جامدة لا يستطيع استخدامها كما كان يحدث في التعليم التقليدي .


وقد تطلب هذا النوع من التعليم بناء نظام تربوي جديد ، يقوم على أساس من المعرفة الذاتية لكل تلميذ في جميع مجالات نموه العقلي المعرفي ، والانفعالي الوجداني ( النفسي ) والبدني و الحركي ، ليحدد له أهدافا مرحلية مناسبة تنبع من احتياجاته الخاصة به وتحقق مطالبه الذاتية، وتتيح له فرص الاختيار المتعدد ، وتمكنه من ممارسة هذا الاختيار بحرية كاملة مما يساعده على السير قدما لتحقيق أهدافه وفقا لسرعته الخاصة به في التعلم مع عدم فرض أي ضغوط أو قيود عليه أو دفعه إلى تعلم غير ما هو مستعد له. 

وتمثل الحقيبة التعليمية أحد نماذج التعلم الفردي ، وتباينت حدود مفهوم في ما تطرقت إليه اهتمامات واجتهادات شخصية في أكثر من جهة في وزارة المعارف ، مما دعا الأسرة الوطنية لوسائل وتقنيات التعليم إلى إعداد هذه الورقة التي ترمي من ورائها إلى جلاء مفهوم ( الحقيبة التعليمية ) وتحديد المعايير والضوابط التي قصدت لها لتكون مرجعا ، لتقارن بها العروض والمنتجات التي تقدم وتفحص باعتبارها حقيبة تعليمية 

تطور مفهوم " الحقائب / الرزم التعليمية

تبلورت فكرة الحقائب / الرزم التعليمية مع تطور البرامج التي تهدف إلي مراعاة الفروق الفردية بين المتعلمين ، ومع تزايد إعمال التفكير بمدخل النظم في التربية والتعليم واستخدام الحاسب في حياتنا المعاصرة

كانت أولى المحاولات المعاصرة لتفريد التعليم بأسلوب علمي هي تلك المحاولة التي قام بها سكنر في الربط بين " علم التعلم وفن التعليم " وتبنى أسلوب التعلم الذاتي المبرمج وكان ذلك عام 1954 م ، وفي أوائل الستينيّات من هذا القرن الميلادي ظهرت البادرة الأولى من الرزم / الحقائب التعليمية في مركز مصادر المعلومات بمتحف الأطفال في مدينة بوسطن بالولايات المتحدة الأمريكية ، عندما اخترع ما يسمى ب ( صناديق الاستكشاف ) Discovery Boxes ، وهي عبارة عن صناديق جمعوا فيها مواد تعليمية متنوعة تعرض موضوعاً معيناً أو فكرة محددةً تتمركز محتويات الصندوق حولها لتبرزها بأسلوب يتميز بالترابط والتكامل ، وقد عالجت الصناديق في مراحلها الأولى موضوعات تعلم الأطفال في ما يسمى بصندوق الدمى وصندوق الحيوانات المتنوعة وما إلى ذلك ، ثم تطورت هذه الصناديق باستخدام المواد التعليمية ذات الأبعاد الثلاثة كالمجسمات والنماذج إضافة إلى كتيب للتعليمات وخرائط تحليلية توضح الهدف من استخدام الصندوق وأفضل الأساليب للوصول إليه حيث أطلق عليها مسمى ( وحدات التقابل ) Match Unitsوأصبحت تحوي مواد تعليمية متنوعة الاستخدام ومتعددة الأهداف إذ احتوت على الصور الثابتة والأفلام المتحركة والأشرطة المسجلة والنماذج ، كما احتوى الصندوق على دليل للمعلم يوضح أهم الأنشطة التي يمكن أن يقوم بها الطفل سواء بمحض إرادته أو بتوجيه من المدرس وعرض لأهم الخبرات والمهارات التي يمكن أن تنتج عن كل جزء من أجزاء الصندوق 0 ثم تركز الاهتمام حول جزء واحد محدد من أجزاء وحدة التقابل وأطلق عليها وحدات التقابل المصغرة (Mini Match Units ) وبعد العديد من التجارب والاستفادة من آراء الكثير من المعلمين والتربويين والآباء للبحث عن أفضل الأساليب المساعدة لإدخال التعديلات والإضافات على هذه الوحدات مما أتاح إمكانية التطوير إلى الأفضل حتى خرجت الحقائب / الرزم التعليمية بمفهومها الحالي إلى حيز الوجود .



ومع استمرار التجريب وإدخال التعديلات على محتويات الحقائب / الرزم التعليمية أضيف إلى كتيب التعليمات جميع الأنشطة التي رغب الأطفال في ممارستها بشكل فردي حر دون تدخل الكبار كما أضيفت بطاقات عمل متنوعة لتوجيه كل طفل إلى القيام بأعمال خاصة به بمفرده ، كما صممت بطاقات خاصة للمعلمين من أجل الاستمرار في تطوير الرزم - الحقائب - والارتفاع بمستواها " .



تعريف مفهوم الحقائب/الرزم التعليمية 



تعددت تعريفات الحقائب/الرزم التعليمية ، تبعاً للاختلاف في أسلوب استخدامها وطريقته ، إلا أنها تشترك جميعا في مفاهيمها العامة ومكوناتها الأساسية ، وقد أقرت المنظمة العربية للتربية والثقافة التعريف التالي" الحقيبة/الرزمة التعليمية هي : وحدة تعليمية تعتمد نظام التعلم الذاتي وتوجه نشاط المتعلم ، تحتوي على مادة معرفية ومواد تعليمية منوعة مرتبطة بأهداف سلوكية ،ومعززة باختبارات قبلية وبعدية وذاتية ، ومدعمة بنشاطات تعليمية متعددة تخدم المناهج الدراسية وتساندها "



ويتخذ فريق العمل بالأسرة الوطنية لوسائل وتقنيات التعليم من التعريف التالي تعريفا إجرائيا له - حيث يرى أن الحقيبة/الرزمة التعليمية وحدة تعليمية : - تتخذ من أسلوب النظم منهجا في إعدادها . 



- محددة الأهداف بصورة سلوكية . - التعلم من خلالها فرديا وذاتيا . - تراعي الفروق الفردية . - تشتمل على مواد تعليمية متعددة . - تشتمل على أنشطة ومهارات هادفة متنوعة . - تتنوع فيها أساليب التقويم وأوقاته . - يتوافر فيها دليل استخدام مشتملا على المحتوى العلمي . - مستوى التعلم المستهدف من خلالها هو الإتقان .



مكونات الحقيبة / الرزمة التعليمية 



تتكون الحقيبة التعليمية من مجموعة من المكونات تختلف في عددها وترتيبها بحسب وجهة نظر المصمم والموقف التعليمي الذي يتبناه ، وهي لا تخرج عادةً عن المكونات الرئيسية التالية : 
الدليل - الأنشطة التدريسية - التقويم وأدواته .



الدليل : يوضع على شكل كتيب صغير أو صفحات منفصلة ويتضمن معلومات واضحة عن موضوع الحقيبة ومحتوياتها وفئة المتعلمين المستهدفة ومستواهم التعليمي و يشتمل على معلومات عامة عن : 
. 1العنوان : الذي يوضح الفكرة الأساسية التي تعالجها الحقيبة ، وبقدر ما يكون العنوان واضحاً ومحدداً يحقق الهدف منه .
. 2 التعليمات للمعلم والمتعلم : وهي تتضمن إرشادات توضح للمعلم والمتعلم - كل في النسخة المخصصة له - أسلوب التعامل مع الحقيبة وخطوات العمل فيها وطريقة استخدام الاختبارات ومواقيتها .



. 3 مسوغات استخدام الحقيبة : تبين للمتعلم الغرض من استخدام طريقة الحقيبة لدراسة الموضوع وتوضح له أهمية دراسة المحتوى ، كذلك تهدف إلي الوصول لاقتناعه بأهميتها .



. 4 مكوناتها المطبوعة وغير المطبوعة : من أدوات وأجهزة ونماذج مجسمة وورقية وشفافيات وأفلام وأشرطة …. . 5 الفئة المستهدفة : لتحديد نوع المتعلمين الذي يوجه إليهم برنامج الحقيبة كبيان حدود العمر والصف الدراسي ….. . 6الأهداف السلوكية : التي تصف النتائج المتوقع تحقيقها في أداء المتعلم بعد كل مرحلة من برنامج الحقيبة وبعد إتمام البرنامج بكامله .



* الأنشطة التدريسية : تشتمل كل حقيبة تعليمية على مجموعة من الأنشطة والاختيارات التي توفر للمتعلم فرص الانتقاء بما يناسب اهتمامه ورصيده الثقافي ، كما توفر هذه الأنشطة التفاعل الإيجابي بين المتعلم والمواد المقدمة له من أجل تحقيق الأهداف المحددة بإتقان عالٍ ، ومن هذه الاختيارات :



. 1 وسائل تعليمية متنوعة : بحيث تحتوي الحقيبة على مجموعة من الوسائل الملائمة لتحقيق الأهداف المحددة وممارسة النشاطات المؤدية إليها .



. 2 أساليب وطرائق متنوعة : حسب نوع التعليم المتبع سواء كان فردياً أو جمعياً وبما يلائم طبيعة الموضوع وأنماط التعلم والفروق الفردية بين المستهدفين ، كتنوع الأسئلة والاعتماد على الصور البصرية والسمعية أو المزج بين عدة طرق . 



. 3 مستويات متعددة للمحتوى : من حيث التدرج بالمتعلم من السهل إلى الصعب. 



* التقويم وأدواته : يعد التقويم من العناصر الأساسية في العملية التربوية بشكل عام وفي الحقائب التعليمية بشكل خاص ، فهو يبين مدى نجاح الحقيبة في ما صممت من أجله ، كما يشخص الجوانب التي تحتاج إلى تحسين وتطوير فيها ، ويوضح التقويم أثر أساليب التدريس المتبعة ومدى فاعليتها و مدى تحقيق المتعلمين للأهداف المحددة بعد إنجازهم مختلف أنشطة الحقيبة . 
ويتكون برنامج التقويم في الحقائب التعليمية من الاختبارات التالية : 



. 1 الاختبار القبلي المبدئي : ويهدف إلى تحديد مدى استعداد المتعلم لتعلم مادة الرزمة و ما إذا كان يحتاج لدراسة الوحدة أم لا، و يساعد في تحديد نقطة البدء التي تبدأ منها دراسة موضوع الحقيبة ، فقد يبدأ من أولها أو من قسمها الثاني أو الثالث وهكذا ، كما يساعد المعلم على تنظيم المتعلمين وترتيبهم في مجموعات متقاربة، لتحقيق أكبر تفاعل مع البرنامج. 



. 2 الاختبار البنائي : مجموعة من الاختبارات المرحلية القصيرة تصاحب عملية التعلم باستمرار لتزويد المتعلم بتغذية راجعة وفورية تعزز تعلمه وتدفعه للتقدم بعد كل اجتياز صحيح لكل خطوة ويكون التقويم بنائياً وتجميعياً وتكوينياً وفردياً ذاتياً، إذا اعتمد فيه المتعلم على نفسه تماماً. 



. 3 الاختبار النهائي البعدي : ويتم بعد إكمال المتعلم لتنفيذ نشاطات الحقيبة والغرض منه تحديد مقدار إنجاز المتعلم للأهداف ومدى استعداده للبدء بحقيبة أخرى ، فإذا ظهر من نتيجة هذا الاختبار أن المتعلم قد حقق المستوى المطلوب فإنه يمكن الانتقال به إلى حقيبة أخرى تالية ، وإلا فيعود إلى البدائل الأخرى لاستكمال ما لم يتحقق .

جون بياجي: من البيولوجيا إلى البيداغوجيا



مقال مترجم (ترجمة: د. محمد مريني)
 تقديم:
هذا النص ترجمة لمقال كتبه الباحث السويسي ألبيرطو ميناري[1]Alberto Munari. لا شك في أن لهذا المقال أهمية خاصة: إذ نجد فيه جوانب مهمة
من المشروع التربوي والبيداغوجي لجون بياجي. إن الذين كتبوا عن التربية عند بياجي يحيلون في غالب الأحيان على نوعين من المصادر:
يتمثل أولهما في الكتابين اللذين كتبهما في موضوع التربية[2]. هذان الكتابان لا يشكلان –على أهميتهما- إلا جزءا محدودا جدا في المشروع الفكري والفلسفي لجون بياجي.
ويتمثل ثاني هذين المصدرين في الكتابات الكثيرة والمتنوعة التي كتبها بياجي في موضوع "مراحل النمو العقلي للطفل". الجدير بالذكر أن هذه الكتابات –وإن كانت تشتغل على الطفل- فإنه لا يمكن إدراجها ضمن مباحث التربية أوالبيداغوجيا، بل تندرج أساسا ضمن الإبستيمولوجيا التكوينية. تفسير ذلك أن المشروع الإبستيمولوجي الجديد الذي استبد بياجي باكتشافه يتمثل في دراسة النمو العقلي ومراحله عند الطفل، منطلقا من لحظة الميلاد ومتابعا النمو إلى سن المراهقة، التي يعتبرها مرحلة اكتمال ذلك النمو. لذلك فإن هذه الكتابات تتقاطع مع التربية وعلومها فيما يتعلق بالموضوع الذي تشتغل عليه، وهو الطفل.  لكنها تختلف من حيث المقاصد والنتائج التي تتوخاها كل من التربية والإبستيمولوجيا.
هناك مصدر ثالث، هو الذي يهمنا هنا، وقد غفل عنه أغلب الذين تناولوا التربية عند بياجي. يتمثل في الخطابات التي كان يلقيها حين كان مديرا للمكتب الدولي للتربية: كان بياجي يحرص في كل سنة، وطيلة السنوات التي تولى فيها المسؤولية في هذا المكتب - من 1929إلى 1967- على تحرير خطاب موجه إلى "مجلس المكتب الدولي للتربية"، ثم إلى "المؤتمر الدولي للتكوين الجماهيري العمومي". تشكل هذه الخطابة مادة تربية ضخمة، قدرها كاتب هذا المقال في حوالي 35000 صفحة. نجد في هذه النصوص المبادئ البيدغوجية الأساسية لمشروعه، وهي مقدمة بوضوح لا نجده في غيره من كتاباته.
هذا إذا أضفنا إلى ذلك أن كاتب المقال كان على صلة وطيدة بجون بياجي: فقد عمل إلى جانبه في المكتب الدولي للتربية لمدة عشر سنوات (من 1964 إلى 1974. كما أنجز أطروحة الدكتوراه تحت إشرافه. لكل هذه الاعتبارات أعتقد أن ترجمة ونشر هذا المقال ستكون مفيدة للمتتبعين والمشتغلين في مجال علوم التربية خاصة منها البيداغوجيا والديداكتيك

النص المترجم:
قد يكون الحديث عن المشروع التربوي لجون بياجي أمرا مثيرا؛ لأن الرجل لم يسبق له -في حياته- أن كان مربيا. كما سبق له أن صرح أيضا بأنه ليس له رأي بيداغوجي ( Bringuier, 1977,p: 194). الملاحظ أيضا أن كتاباته في مجال التربية لا تتعدى ثلاثة أجزاء من المائة (Ibid)، من مجموع أعماله.
ستكون هذه الحيرة مبررة حينما نعود فقط إلى الإنتاج العلمي لجون بياجي. لكن، سيكون الأمر خلافا لذلك حينما نفكر في العدد الكبير من الأعمال التي أنجزت حول الجوانب التربوية في أعماله[3]. وهذا الأمر أصبح صحيحا إلى درجة أنه منذ عدة سنوات، لم نعد نستطيع إحصاء الكتابات التربوية والبيداغوجية، التي تحيل –بشكل مباشر- على أعمال جون بياجي.
لذلك لم يعد غريبا أن نلاحظ في السنوات الأخيرة أن الكثير من الباحثين في التربية والبيداغوجيا يحيلون على كتابات جون بياجي لتبرير آرائهم ونظرياتهم. لكن هل يقدم الدارسون لمشروع "جان بياجي" التفسير نفسه؟ هل يحيلون دوما على علم النفس بياجي، أم يثيرون جوانب أخرى من عمله المعقد والمتنوع؟ من هو بياجي الذي يمكن أن نعتد بإسهاماته الهامة: هل هو بياجي "البيولوجي"؟ أم بياجي "الإبستيمولوجي"؟ أم بياجي "السيكولوجي"؟ أم أننا مدينون بشكل خاص ل بياجي الإداري؟ وهو الوصف الذي نعت به حين كان مديرا للمكتب الدولي للتربية؟
معركة العمر: الكفاح من أجل المعرفة
لنبدأ بتحديد الأساس الخلفي لهذه المعركة: لقد كان بياجي نموذجا للمثقف الأكاديمي اللامع؛ لقد أمضى حياته في صراع مع المؤسسات والآراء الفكرية المسبقة السائدة في عصره، وربما أيضا مع انشغالاته الروحية المثالية المرتبطة بمرحلة الشباب(Piaget, 1914, 1915, 1918).
 وكان مدفوعا إلى هذا الصراع من طرف والده، الذي كان له فكرا نقديا، لا يقبل التعميمات المتسرعة( Piaget; 1976, p: 2). وقد ولع بياجي - منذ وقت مبكر- بالدقة العلمية والملاحظة التجريبية، التي تمثلها من خلال اتصاله المباشر بعالم الرخويات "بول كودي Paul Godet"... بدأ نشاطه العلمي مبكرا، وهو في الخامسة عشرة من عمره، من خلال المقالات التي كان يكتبها في مجلات واسعة الانتشار.
هكذا وجد بياجي نفسه منجذبا بقوة إلى فتنة العلم، وصرامة البحث العلمي. لنستمع إليه، وهو يتحدث عن هذه المقالات، فيقول: "على الرغم من كون هذه الدراسات قد كتبت في وقت مبكر، فإنها كانت –مع ذلك- ضرورية في تكويني العلمي. والأكثر من ذلك، أنها شكلت –إذا جاز لي أن أقول- وسائل للوقاية من شر الفلسفة. إذ بفضلها حظيت باستشفاف حقيقة العلم، في فترة مبكرة، قبل أن أتعرض للأزمات الفلسفية المرتبطة بمرحلة المراهقة. وقد تأكد لي أن المحرك الداخلي لنشاطي اللاحق في مجال علم النفس قد تشكل من خلال هذه التجربة المبكرة"(Ibid, p:3)           
وبعد الأزمتين العنيفتين التي تعرض لهما، الأزمة الدينية والأزمة الفلسفية، (ما يسميه "أزمات المراهقة")Ibid, p: 4))، وجد بياجي نفسه مدفوعا بيقين عميق إلى الاعتقاد بأهمية المقاربة العلمية، باعتبارها الطريق الأمثل للوصول إلى المعرفة. واقتنع بأن المقاربات التأملية والاستبطانية السائدة في التقليد الفلسفي الغربي، يمكن لها -في أحسن الأحوال- أن تمنح للمشتغل بها نوعا من  الحكمة (Piaget, 1965a).
هذا الاقتناع القوي هو الذي سيحدد الاختيارات العميقة التي سيأخذها بياجي في السنوات العشرين من عمره، وهي الخيارات التي لن يغيرها فيما بعد. سواء تعلق الأمر بعلم النفس الذي قرر أن يتخصص فيه، أوبالمنهج الأكاديمي الذي قرر أن يعتمد عليه، أوالالتزام بالعمل على إيجاد الحلول لمشاكل التربية. في ما يتعلق بعلم النفس يقول بياجي: "هذا جعلني آخذ قرارا لأخصص ما بقي من حياتي للتفسير البيولوجية  للمعرفة" (Ibid, p:5). هكذا سيغادر بياجي التحليل النفسي وعلم النفس المرضي، بعد اهتمام أولي مرتبط بحياته الخاصة، لينكب على مجال آخر في علم النفس المعرفي  (Ibid, p: 2). فيما يتعلق بعمله كباحث ومدرس جامعي، كان الانشغال الثابت الذي وجه جل أعماله هو السعي إلى إقناع المؤسسات العلمية –التي تشتغل على العلوم الفيزيائية والطبيعية- بالطابع العلمي للعلوم الإنسانية؛ خاصة علم النفس والإبستيمولوجيا. كما أن مواقفه والتزاماته في ميدان التربية، ستسعفه في اكتشاف مسار متميز، قائم على مقاربة علمية للمدرسة.
بياجي يكتشف عالم الطفولة الذي سيقوده إلى عالم التربية
هذا المشروع هو الذي سيجعل بياجي يبتعد عن منهج الاستبطان الفلسفي، ويذهب إلى باريس للاشتغال  مع "جانيت Janet"و"بايرونPiéron "  و"سيمونSimon"، في المختبرات التي أسسها "بيني Binet". هناك سيكتشف لأول مرة غنى التفكير الطفولي. كما سيقوده هذا الاشتغال إلى التعرف –بشكل طبيعي- على الخطوات الأولى لطريقته النقدية، التي يسميها أحيانا الطريقة الإكلينيكية. وهي طريقة مبتكرة ومثيرة، تقوم أساسا على استجواب الطفل. ويمكن اعتبار هذه الطريقة حصيلة اتصاله واستفادته من المدرسين الذين التقى بهم: داماس Damas و سيمون Simon في السيكولوجيا السريرية، و"برينسشفيك Brunschschvicg  و"لالاند" Lalande" في الإبستتيمولوجيا، والمنطق، وتاريخ العلوم.
لعل أصالة الاكتشاف عند بياجي في تناوله للتفكير الطفولي تقوم على مبدأ منهجي،  بموجبه تصبح رقة ونعومة المحادثة -وهي سمة مميزة للمقاربة الإكلينيكية عند بياجي- مستندة إلى البحث النسقي للسيرورات المنطقية-الرياضية الكامنة وراء البراهين المعتمد عليها. علاوة على ذلك، في ما يتعلق بمسار هذا النمط من المقابلات، ينبغي الرجوع إلى مختلف مراحل الإعداد التي مر بها المفهوم الذي نريد دراسته، في سياق تطوره التاريخي. يبدو منهج "بياجي" –للوهلة لأولى- كأنه محاولة للجمع بين ثلاث مقاربات كان التقليد الغربي يعتبرها  منفصلة عن بعضها البعض: المقاربة التجريبية في العلوم التجريبية، المقاربة الفرضية-الاستنتاجية في العلوم المنطقية الرياضية، والمقاربة التاريخية-النقدية في العلوم التاريخية.( Munari, 1985a, 1985b).

في باريس كان بياجي يستجوب الأطفال النزلاء في المستشفى، لكن حين تم استدعاؤه إلى "جنيف" -من طرف "إدوارد "كلاباريد- Edouard Claparéde"، و"بيير بوفي Pierre Bovet"- بدأ "بياجي" يدرس الطفل في نطاق حياته العادية. خاصة في مؤسسة جان جاك روسوJ- RousseauJ، التي أصبحت هي الميدان الرئيس لأبحاثه. لقد شمل عمله نمطين من المؤسسات: أولا، فضاء مؤسسة جون جاك روسو، وهو فضاء تربوي متميز، كرس نفسه لتطوير الأنظمة التربوية وممارساتها. ثانيا، فضاء المدارس العمومية في جنيف؛ وهي مدارس قد تكون أقل حداثة مقارنة مع مؤسسة جون جاك روسو، لكنها –مع ذلك- أتاحت لبياجي فرصة الانتباه إلى الفارق الذي يفصل بين القدرات العقلية، غير المشكوك فيها، التي توجد عند الأطفال، وبين الممارسات التربوية المعتمدة -عادة- من طرف المدرسين في المدارس العمومية. لقد أصبح بياجي يشتغل -هذه المرة- في نطاق مؤسسات تربوية، خلافا لما كان حاصلا في السابق؛ حيث كان يشتغل في المختبرات الطبية المهتمة بالطفل المريض أوالمعاق. من المؤكد أن طبيعة العمل السابق لم تخل من بعض التأثير في الوعي الذي تشكل لدى بياجي حول مشاكل التربية في ذلك الوقت.
لكن -كما اعترف بياجي بكلام لا يخلو من الصراحة- "لم تكن البيداغوجيا تهمني في ذلك الوقت، لأنه لم يكن لدي أطفال" (Piaget 1976, p:12 ). ولن يتحقق ذلك إلا في وقت لاحق، عندما عاد إلى "جنيف" بعد فترة وجيزة، حيث سيعوض أستاذه القديم "أمولد ريموندAmold Reymond، وسيصبح مسؤولا عن مؤسسة "جون جاك روسو"، رفقة "كلاباريد" و"بوفي". حينذاك أخذ التزامه بحقل التربية -لأول مرة- شكلا واقعيا. يقول: "في سنة 1929 قبلت بتهور مهمة مدير المكتب الدولي للتربية، استجابة لإلحاح صديقي بيدرو روسول Pedro Rossello"(Ibid,p:17). لقد كان هذا الاختيار عبارة عن تحول لا يمكن الاستهانة به في المسار التربوي ل"بياجي"؛ لأنه قبول الانخراط في مشروع كبير لتربية دولية. وهذا ما سيقوده في اكتشاف الرهانات الاجتماعية-السياسية التي ترافق -لا محالة- كل المؤسسات التربوية.
بياجي: من الإدارة إلى المبادئ التربوية
يقول بياجي "هناك عنصر اللعب في هذه المغامرة"(ibid) كأنه يريد أن يقلل من أهمية هذه التجربة. لكن، بعد مدة يسيرة، سيصبح بياجي على رأس هذه المؤسسة الدولية: من  1929إلى1968. وهذا يشكل –في الحقيقة- عملا متميزا، ليس بالنظر إلى طبيعة العمل في حد ذاته، ولكن في علاقته بشخصية بياجي نفسه، المعروف بعدم اهتمامه بالمشاركة في المهام غير العلمية!
كيف نفسر إذن هذا القبول؟ هل يتعلق الأمر بالرغبة في تحسين الطرق البيداغوجية، من خلال "التبني الرسمي لتقنيات أكثر تكيفا مع العقل الطفولي"(Ibid)؟ هل يمكن أن نر في هذا القبول محاولة للتمكن من وسائل تسعف في التدخل بشكل أكثر فعالية في المؤسسات المدرسية الرسمية، عن طريق إدارة حكومية عليا؟ هل يتعلق الأمر باختيار لمواجهة الجهل المنتشر بين الشعوب، وأيضا مواجهة خطر الحروب، من خلال مجهود تربوي موجه في اتجاه القيم الإنسانية؟
كان بياجي يحرص في كل سنة، وطيلة السنوات من 1929إلى 1967، على تحرير خطاب موجه إلى مجلس المكتب الدولي للتربية، ثم إلى المؤتمر الدولي للتكوين الجماهيري العمومي. نجد في هذه النصوص -التي غفل عنها أغلب الذين تناولوا أعمال بياجي- المبادئ البيدغوجية الأساسية لمشروعه، وهي مقدمة بوضوح لا نجده في غيره من كتاباته. إذن من خلال هذه النصوص، ومن خلال الأعمال القليلة، التي قبل بياجي أن ينشرها عن مشاكل التربية(Piaget, 1969, 1972b)، يمكن إضاءة المبادئ الأساسية، التي توجه مشروعه التربوي. وسنكتشف أن هذا المشروع ليس غامضا كما يرى ذلك الكثيرون.
قبل كل شيء –خلافا لما يعتقده الكثيرون- يعطي بياجي للتربية أهمية قصوى، فهو لا يتردد في القول إن "التربية هي القادرة وحدها على حماية مجتمعاتنا من تفكك، قد  يأتي عنيفا أومتدرجا" (Piaget, 1934, p: 31). لهذا فإن المؤسسة التربوية تستحق أن تتكاثف من أجلها الجهود. وبعد الخراب الذي عرفه العالم في الحرب العلمية الثانية، صرح قائلا: "بعد الانهيار الذي أصاب العالم تبدو التربية، مرة أخرى، العامل الحاسم، ليس فقط في إعادة البناء، لكن أيضا في عملية البناء الفعلي" (Piaget, 1940). لقد كانت التربية بالنسبة لبياجي الرهان الأول لجميع الشعوب، بعيدا عن الاختلافات الإيديولوجية والسياسية. إن "الرصيد الإيجابي المشترك لكل الحضارات هو تربية الطفل".(Ibid)
لكن ما هو نوع هذه التربية التي يريدها بياجي؟ هنا  أيضا –وخلافا لما سيقوله فيما بعد في برينغويي Bringuier- لا يتردد بياجي في التعبير عن آرائه في هذه "الخطابات"[4]. في البداية، يعلن عن القاعدة الأساسية في فكره التربوي قائلا: "أسلوب الإكراه هو أسوأ الأساليب في التربية" (Piaget, 1949d,p: 28 ). ولذلك "في مجال التربية تكون القدوة أجدى من الإكراه" (Piaget, 1948 p: 22).هناك قاعدة أخرى أساسية، عبر عنها عدة مرات، هي أهمية نشاط الطفل: "الحقيقة التي نصل إليها عن طريق الحفظ لا تشكل إلا نصف الحقيقة، إن الحقيقة الكاملة هي تلك التي يصل إليها الطفل، أويعيد بناءها واكتشافها" (Piaget, 1950, p: 35). يقوم هذا المبدأ التربوي على حقيقة نفسية لا نقاش فيها: "تعلمنا كل الطرق التربوية الحديثة أن التفكير يسبق الإنجاز" (Ibid). من هنا فإن تمارين البحث ينبغي أن تلعب دورا أساسيا في الإستراتيجية التربوية؛ لكن هذا النوع من البحث لا ينبغي أن يكون مجردا: "يفترض الإنجاز القيام بأبحاث سابقة، والبحث ليست له من قيمة إلا من أجل الفعل"(Piaget, 1952, p: 28)
إذن، الدعوة إلى مدرسة بدون قيود، حيث يكون الطفل مدعوا إلى التجريب بطريقة حية، من أجل إعادة بناء ما يريد أن يتعلمه. إلى هنا نكون قد وضعنا صورة مكثفة لمشروع بياجي. لكن، ينبغي أن ننتبه إلى ما يلي: "لا يمكن أن نتعلم التجربة، ونحن نكتفي بمشاهدة المدرس وهو يجرب، أومن خلال الاعتماد على تمارين جاهزة. ينبغي أن نجرب من خلال محاولتنا الخاصة، وأيضا من خلال العمل النشيط الحر، مع أخذ الوقت الكافي لذلك" (Piaget, 1959, p: 39  ). اعتمادا على هذا المبدأ الذي يعتبره أساسيا لا يخشى بياجي الجدال: "تكون المدرسة ،في أغلب الدول، لغويين، ونحاة، ومؤرخين، ورياضيين، لكن لا تنجح في تربية العقل التجريبي. ينبغي الإلحاح على هذا المشكل الكبير، المتمثل في تكوين العقل التجريبي. لا ننس أن المشكل الكبير في المدارس الابتدائية والإعدادية هو في تكوين العقل التجريبي"(Ibid)
وما هو دور الكتب والمؤلفات المدرسية في هذه المدرسة؟ يقول: "في المدرسة المثالية لا نقتني كتبا مدرسية بشكل إجباري، لكن يمكن للتلاميذ أن يستعملوا تآليف بطريقة حرة (...) الكتب المسموح بها هي كتب المدرس"(Ibid)
هل يعتبر بياجي أن فاعلية هذه المبادئ مرتبطة بتربية الطفل فقط؟ يجيب: "على العكس، إن الطرق التربوية الفعالة، التي تدعو إلى هذا النوع من العمل العفوي، والموجه في الوقت نفسه من خلال الأسئلة المطروحة؛ حيث يعيد التلميذ اكتشاف وبناء الحقائق عوض تلقيها جاهزة، ضرورية للراشد أيضا، مثله مثل الطفل(...). في الحقيقة، ينبغي أن نتذكر أنه في كل مرة يتعرض فيها الراشد لمشاكل جديدة بالنسبة إليه، فإن تسلسل ردود الفعل بالنسبة لهذا الراشد تشبه تطور ردود الأفعال أثناء النمو العقلي"(Piaget, 1956b, p: 43)
إذن، هذه هي المبادئ التي تشكل القاعدة الأساسية للتربية عند بياجي. فيما يتعلق بالنظم الخاصة ببعض المواد، يسرف "بياجي" في تقديم نصائح محددة، خاصة في ما له علاقة بتدريس مادة الرياضيات. "على اعتبار أن نمو الطفل يتحقق في المجال الحسي- الحركي أكثر منه في مجال المنطق اللغوي، من المناسب أن نعطي له خطاطات الفعل التي يستطيع الاعتماد عليها لاحقا (...) التدرب على الرياضيات سيكون معززا بتربية حسية حركية، كما نمارسها -على سبيل المثال- في مؤسسة "دار الصغار" في جنيف"(Piaget, 1939c, p: 37).

ولقد كان موقفه من هذه المادة جد واضح: "فهم الرياضيات ليس مسألة قدرة عند الطفل. من الخطأ إذن أن نعتقد أن الخطأ في الرياضيات يأتي من نقص في القدرة (...) العملية الرياضية تستمد من الإنجاز: من هنا نستنتج أن الاعتماد على الحدس لا يكفي، ينبغي على الطفل أن ينجز العملية بنفسه، ينبغي للعملية اليدوية أن تحضر للعملية العقلية(...) في كل مجالات الرياضيات ينبغي للكمي أن ينبثق عن العددي" (Piaget, 1950, p: 79-80)
كما أن تدريس العلوم الطبيعية يحظى عند بياجي بأهمية خاصة: "يفاجأ علماء النفس، الذين يدرسون سيكولوجية العمليات العقلية عند الطفل وعند المراهق، دائما بالوسائل التي يتوفر عليها الطفل العادي في هذا المجال، شريطة أن نمنحه وسائل العمل بطريقة حية، دون أن نجبره على كثير من التكرار السلبي (...) انطلاقا من وجهة النظر هذه، فإن تدريس العلوم هو التربية الفعالة على الموضوعية، وعلى تعود التحقق من الأشياء"(Piaget, 1952, p: 33)
لكن، مبدأ التربية الفعالة يمكن تطبيقه أيضا على مجالات أقل تقنية، مثل اكتساب لغة  حية؛ وذلك من خلال "تعلم لغة بطرقة مباشرة، من أجل السيطرة عليها، ثم التفكير فيها لاستخلاص قواعدها النحوية"(Piaget, 1956b, p:44) أوحتى تشكيل وعي دولي: "من أجل مواجهة الشك وصعوبات التواصل بين الشعوب، قدم لحد الآن علاج واحد ذو طبيعة عاطفية، في شكل دروس، وفي شكل دعوات إلى استحضار الوعي(...) ينبغي أن نقيم بين التلاميذ، خاصة المراهقين منهم، علاقات اجتماعية، ودعوة إلى نشاطهم وإلى مسؤوليتهم"(Piaget, 1948, p: 36).
وفي ما يتعلق بالعلاقة بين التربية وعلم النفس، يبدو بياجي في "خطاباته" أكثر صراحة منه في كتاباته الأخرى. أولا إن العلاقة بين التربية وعلم النفس، هي بالنسبة إليه، علاقة ضرورية: "في الحقيقة لا أعتقد بأن هناك بيداغوجوجيا عالمية. إن المشترك في كل الأنظمة التربوية هو الطفل نفسه، أوعلى الأقل ملامح عامة من نفسيته"(Piaget, 1934b, p: 94). هذه الملامح -تحديدا- هي التي ينبغي على علم النفس أن يوضحها، لكي يتسنى للطرق التربوية أن تأخذها بعين الاعتبار : "لا يمكن أن ننكر أن أبحاث علماء النفس هي التي شكلت نقطة البداية لكل الابتكارات ذات الطابع المنهجي والديداكتيكي في العشرية الأخيرة. إنه من غير الضروري التذكير هنا بأن جميع الطرق التربوية التي استدعت المصالح والنشاطات الواقعية للتلاميذ قد استلهمت علم النفس التكويني"(Piaget, 1936, p: 14)
لكن، "العلاقات بين البيداغوجيا وعلم النفس معقدة: فالبيداغوجيا فن، أما علم النفس فهو علم. لكن، إذا كان فن التربية يتطلب قدرات فطرية فريدة فإنه في حاجة إلى التطوير من خلال إمداده بالمعارف الضرورية عن الكائن الإنساني، الذي نريد تربيته"(Piaget, 1948, p: 22). فضلا عن ذلك، "نؤكد باستمرار أن التربية فن وليست علما، لذلك فهي غير ملزمة بالتماس تكوين علمي. إذا كان هذا الأمر صحيحا، فالتربية مثلها مثل الطب؛ الذي يتطلب قدرات ومواهب فطرية، لكنه يلتمس أيضا معارف تشريحية باثولوجية ..إلخ. أيضا، إذا كانت البيداغوجيا تريد أن تهذب التلميذ، ينبغي لها أن تنطلق من معرفة الطفل، أي من علم النفس"(Piaget, 1953, p: 20)
بشكل أكثر وضوحا، على مستوى البحث العلمي، يعتبر بياجي –بلغة لا تخلو من جدال- أن البيداغوجيا التجريبية لا يمكن أن تستمر بدون إقامة علاقة مع علم النفس: "إذا كانت البيداغوجيا تريد أن تصبح علما وضعيا خالصا؛ أي علما يقتصر على ملاحظة الحدث دون أن يسع إلى تفسيره، ويقتصر على ملاحظة النتائج، لكن، دون أن يبحث لها عن أسباب، فإنه من المؤكد أن هذه البيداغوجيا لن تحتاج إلى علم النفس (...). لكن، إذا كانت البيداغوجيا التجريبية ترغب في فهم ما تكتشفه، وتفسير النتائج التي تلاحظها، والعمل على تفسير السبب الذي يجعل بعض الطرق البيداغوجية تتفوق عن الأخرى من حيث الفعالية، يعني ذلك العودة على الدوام إلى علم النفس البيداغوجي وليس إلى مقياس المردودية في البيداغوجية التجريبية"(Piaget, 1966a, p:39)
لكن، إذا كانت العلاقات بين البيداغوجيا وعلم النفس معقدة، فإن الحوار بين المربي والعالم النفسي ليست أفضل حالا. يذهب بياجي إلى حد تقديم نصائح ذات طابع استراتيجي، تعبر عن حكمة وتجربة مفاوض حاذق. يقول: "ينبغي دائما أن نتذكر القاعدة الأولية في علم النفس، التي مفادها ما يلي: للإنسان عموما حساسية في تلقي الدروس، ولا شك في أن المربين هم أكثر حساسية في ذلك. منذ القديم عرف علماء النفس أنه لكي يسمع المدرسون والإداريون إلى كلامهم ينبغي أن يحترسوا من الظهور بمظهر من يعود إلى المذاهب النفسية، ويكتفوا بالتظاهر بالعودة إلى الفطرة السليمة" (Piaget, 1954a, p: 28)
قد يبدو هذا الكلام ذو طابع انتهازي لأول وهلة! لكن، إذا فكرنا بعمق سنجد هنا أيضا العقيدة التربوية الأساسية ل بياجي: "لنا الثقة التامة في القيمة التربوية والإبداعية للتبادل الهادف L'échange objectif. لقد اعتقدنا أن التكوين المشترك والفهم المتبادل، انطلاقا من وجهات نظر مختلفة يسهمان في تكوين الحقائق. لقد فندنا سراب الحقائق العامة من أجل الاعتقاد في هذه الحقيقة الملموسة والحية، التي تنشأ من خلال المناقشة الحرة، وأيضا من خلال عمليات التنسيق الجاد والمتحسس للمنظورات المختلفة، بل والمتناقضة أحيانا (Ibid).
هذه العقيدة لا تقتصر على المجال التربوي: بل هي بالنسبة ل بياجي الشرط الضروري لكل عمل علمي، والمبدأ المنظم لكل نشاط إنساني، قاعدة حياة كل كائن عاقل.
التشكل الطويل للإبستيمولوجيا التكوينية           
إذن، من خلال هذا الفكر سيواصل بياجي بناء مشروعه، الذي سحره منذ بداية مشواره العلمي: يتعلق الأمر هنا بمحاولة إقامة "علم تكون الذكاء" (Piaget, 1976, p: 10). انطلاقا من مثل هذه الدراسات، التي تقوم على مقاربات ومناهج مختلفة، وتعتمد على المقابلة بين علماء من آفاق متباينة، وفي تخصصات متنوعة، درس بياجي نمو الذكاء منذ فترة الطفولة الأولى، وتوصل إلى صياغة فرضيته الشهيرة، التي مفادها أن هناك "تواز"، بين سيرورة إعداد المعرفة الفردية وسيرورة إعداد المعرفة الجماعية، أي بين علم النفس وتاريخ العلوم (Piaget, 1983).
لقد أثارت هذه الفرضية -خاصة من خارج حدود ناحية جنيف، ومن الميدان الخاص بعلم النفس- جدلا واسعا. لكنها كانت، من المنظور الاستكشافي، ذات خصوبة عجيبة: ليس فقط لأنها أسعفت العلماء -الذين يشتغلون في المركز الدولي للإبستيمولوجيا التكوينية- في إنتاج علمي ضخم؛ إذ وصلت أعماله المنشورة إلى حوالي سبعة وثلاثين مجلدا. بل كانت أيضا مصدرا للجهود الجديدة، التي انطلقت من النقاش العميق الذي دار حول التربية من منظور بياجي، خاصة في الولايات المتحدة الأمريكية.
لقد سبق ل"عالم النفس" بياجي أن أمد المربي بسلسلة مهمة من الأعمال التجريبية، استنادا إلى الطرق الفعالة، التي استلهمها من "منتسوري" و"فريني" و"دوكلوري" و"كلاباريد". كما سبق له أيضا -من خلال أعماله في مجال تطور ذكاء الطفل- أن شجع المدرسين على تكييف تدخلاتهم البيداغوجية مع المستوى الفعلي للتلميذ. سيعرض -هذه المرة- "عالم الإبستيمولوجيا" جان بياجي وجهة نظر جديدة: سيقترح الخروج بشكل من الأشكال من عالم التلميذ، ومستواه، ومشاكله، وقدراته الخاصة، لكي ينفتح من جديد على السياق الثقافي، مع الأخذ بعين الاعتبار مختلف المسارات والآثار التاريخية للمفاهيم نفسها التي يريد دراستها.

القراءة المضاعفة للبنائية التكوينية                                
لقد كانت حقائق ونظريات البنائية التكوينية، كما صاغها بياجي، وكذا التدقيقات التي اقترحها لمراحل نمو الذكاء والمعارف العلمية، موضوعا لقراءات جد مختلفة، تبعا لنمط التصور الثقافي الذي يحمله كل قارئ، وهو هدف نهائي –لا يمكن إنكاره- لكل مشروع تربوي.
من هذه التصورات المختلفة، يمكن التعرف إلى اتجاهين أساسيين: أحدهما يتصور الثقافة كصرح، في حاجة إلى إعادة البناء تدريجيا، اعتمادا على طريقة جد مبرمجة. وآخر يعتبر الثقافة بالأحرى عبارة عن شبكة تتسم بنوع من الليونة، وبقدرة على التنظيم الذاتي، الذي يسمح بالتالي لعمليتي البناء وإعادة البناء بأن تحدث بسهولة، غير متحكم فيها بصورة كاملة(Fabbri, Munari 1948a ).
يبقى من المهم أن الاتجاهين معا يحيلان على البنائية التكوينية لبياجي بشكل عام، وعلى نظرية "مراحل النمو العقلي" تحديدا. لكن، مع تقديم تأويلين من مستويين مختلفين: أحدهما سيكولوجي، والآخر إبستيموجي. وقد دخل هذان الاتجاهان في مواجهة حادة على مستوى التطبيق البيداغوجي:
يوجد الاتجاه الأول على مستوى علم النفس الطفل. يعطي هذا الاتجاه لمفهوم المرحلة معنى طبقة، وهي مرحلة ضرورية ومحددة من خلال طبيعة سيرورات النمو نفسها. كما أنها عبارة عن خبرة ثابتة وصلبة، بدونها يصبح كل بناء متعاقب مستحيلا. من الأمثلة النوعية لهذا التصور–على سبيل المثال- اللجوء إلى الاستشهاد بالبراهين التي قدمها بياجي، من أجل إعطاء إضفاء مشروعية علمية على ممارسات التوجيه والانتقاء المدرسيين. وهي ممارسات تهدف إلى إخضاع المنظومة والممارسات التربوية إلى تراتبية، وفق مستويات تعتبر "متجانسة"، ويصعب الوصول إليها كلما تقدمنا. 
يتعارض التفسير السابق مع تفسير آخر للبنائية التكوينية لبياجي. يندرج هذا التفسير ضمن حقل الابستيمولوجيا. يفهم هذا الاتجاه مرحلة النمو باعتبارها نوعا من البنينة المضاعفة- التي تكون مباغتة، ونسبيا غير متوقعة، ومؤقتة، وغير مستقرة- لشبكة من العلاقات، التي تربط عددا من المفاهيم والعمليات الذهنية، وتجعلها في حركة متغيرة على الدوام. يحيلنا المثال النوعي لهذا التصور –بقوة- على كيهنKuhn   (1962)، الذي يتجرد -في الممارسة البيداغوجية- من كل شكل من أشكال البرمجة والتنميط. ويجنح إلى تصور يولي اهتماما بالغا لترتيب السياقات، التي تسهل ظهور أشكال تنظيم المعارف التي نرغب في تشكيلها.      

وعلى الرغم من تعارض هذان الاتجاهان، فإنهما يتعايشان معا في مختلف أنحاء العالم التربوي المعقد وغير المتجانس. يسود أحدهما على الآخر أحيانا -في ظل لحظة تاريخية محددة- بحسب العادات المحلية، والرهنات الاقتصادية، والقوى السياسية المهيمنة. لكن، يبدو اليوم أن الاتجاه الثاني -الذي عرف انحسارا على مستوى المؤسسة المدرسية- هو الذي ينتشر في التطبيقات التربوية غير المدرسية، خاصة في استراتيجيات تكوين أطر التدبير. ربما بسبب الرهانات الجديدة التي أصبحت تفرضها -على نحو متزايد بيئة مترابطة وغير متوقعة- على تنظيم الشؤون البشرية.
بحيث، إذا كان بياجي "التربوي" قد ترك أثرا في بعض التطبيقات المدرسية، خاصة في ما يتعلق بتربية الأطفال الصغار، وإذا كان من المؤكد أن بياجي "رجل السياسي التربوية اللبق" قد ساهم في توسيع دائرة التنسيق في مجال التربية على المستوى الدولي، فإن بياجي "الإبستيمولوجي" يوجد حاليا مؤثرا في مشاريع تربوية موجودة في ميادين، لم يكن يفكر فيها. وهذا مؤشر -لا يمكن إنكاره- على غنى الاقتراحات النظرية والإيحاءات القابلة للتطبيق، التي يمكن لأعماله أن توفرها للمشتغلين في التربية.
  
المراجع التي اعتمد عليها الكاتب:
- 1914, Piaget, Bergson et Sabatier, Revue chrétienne, vol, 61, n: 4, p: 192-200, 1914, Paris.
- 1915, Piaget, La mission de l'idée, Lausanne, La concorde 
- Piaget, Recherche, Lausanne, La Concorde
- 1918, Piaget, La mission de l'idée, Lausanne, La concorde.
1934a, Piaget, Une éducation pour la paix est-elle possible?, Bulletin de l'enseignement de la Société des nations (Genève) n: 1.
- 1934b, Piaget, Remarques psychologiques, sur le self-government, Dans: Le self-government à l'école, Bureau international d'éducation, Genève. 
- 1934c, Rapport du directeur: cinquième réunion du conseil, Genève, Bureau international d'éducation  
- 1934d, Piaget, Discours du directeur, Dans: Troisième Conférence international de l'instruction publique: procès- verbaux et résolution, Genève, Bureau internationale d'éducation.
- 1936a, Piaget, Rapport   préliminaire sur l'enseignement des langues vivantes dans ses relations avec la formation de l'esprit de collaboration internationale, Bulletin de l'enseignement de la société des nations (Genève), n: 3.
- 1939a, Piaget, Examen des méthodes nouvelles, Dans: Encyclopédie française, t.15: éducation et instruction, Paris, Société, de gestion de l'Encyclopédie française.  
- 1939b, Piaget, Les méthodes nouvelles: leurs bases, Dans: encyclopédie française, t 15: éducation et instruction, Paris, Société de gestion de l'Encyclopédie française.
- 1939cPiaget, Discours du directeur (et autre intervention), Dans: Huitiéme Conference international de l'instruction publique: procés-verbaux et recommendation, Genéve, Bureau international d'éducation.
1940Piaget, Rapport du directeur: onzième réunion du conseil, Genève, Bureau international d'éducation    
- 1948, Piaget, Discours du Directeur du Bureau international d'éducation (et autres interventions), Dans: Onzième Conférence de l'instruction publique: procès- verbaux et recommandation, Genève, Bureau international d'éducation.
- 1949, Piaget, Discours du directeur du Bureau, international d'éducation, Dans: Douziéme Conferences international de l'instruction
- 1950, Piaget, Discours du directeur du bureau international d'éducation, Treizième Conference international de l'instruction publique: procès- verbaux et recommendation, Genève, Bureau international d'éducation.    
- 1952, Piaget, Discours du directeur du bureau international d'éducation, Dans: quinzième Conférence international d'éducation de l'instruction publique: procès-verbaux et recommandation, Genève, Bureau international d'éducation. 
- 1954a, Piaget, L'éducation artistique et la psychologie de l'enfant, Dans: art et education: recueil d'essais, Paris, UNESCO.  
- 1954b, Piaget, Discours du directeur (et autre intervention), Dans: Dix-septième, Conference international de l'instruction publique: procès-verbaux et recommendation, Genève, Bureau international d'éducation.
- 1960, Piaget, Discours du directeur, Dans: Vingt-troisième Conference international de l'instruction publique: procès-verbaux et recommendation, Genève, Bureau international d'éducation, p: 38-39
- 1956a Education et instruction depuis 1935, Dans: Société nouvelle de l'Encyclopédie française, t: 15, Paris  
- 1965b, Piaget, Discours du directeur, Dans: Vingt-septième Conférence international de l'instruction publique: procès- verbaux et résolution, Genève, Bureau internationale d'éducation.
- 1969Piaget, Psychologie et pédagogie, Paris, Denoël, Paris.
- 1972a, Piaget, Fondements scientifiques pour l'éducation de demain, Perspective: revue trimestrielle de l'éducation, Paris, UNESCO, vol 2 n: 1.
- 1972b, Piaget, ou va l'éducation? Paris, Denoël.
 - 1966a, Piaget, l'initiation aux mathématiques modernes et la psychologie de l'enfant. L'enseignement mathématique, Paris, Série2, vol: 12.
- 1976, Piaget, Autobiographie, Dans: G.Bussino: Les sciences sociales avec et après Jean Piaget, Cahiers Vifredo Pareto, Revue européenne des sciences sociales, Genève.
- 1977, Bringuier,Conversation libres avec Jean Piaget, Paris, Laffont.
-  Fabbri, Munari 1948a, Fluckiger, M, 1980, La ville: un objet à construire, Dans: A. Bulhinger et al. Ll bambino e la città, Milano, Franco Angeli.
- 1985a, Munari, Per una methodology della interdisciplinaria, studi di psicologia del l'educazione (Rome), vol, 4, n: 2, p: 117-126
- 1985b,   Munari, the Piagetian approach to the scientific method: implication for teaching, Dans: V.Shulman, L.Restaino-Baumann, New York, Plenum Press, p: 203-211.






[1]Alberto Munari, Jean Piaget, (1896-1980), Revue trimestrielle d'éducation comparée, UNESCO: Bureau international d'éducation n: 1-2, 1994, p: 321-337  Paris, 2000 

[2] الكتابان هما:
 Jean,  Piaget, Psychologie et pédagogie, Paris, Denoël, Paris, 1969
Jean, Piaget, ou va l'éducation, Denoël/Gonthier, Paris, 1972,
[3] أنظر عناوين الأعمال التي اشتغلت على الجوانب التربوية في كتابات "جون بياجي" في مقال:Alberto Munari, Jean Piaget, revue d'éducation comparée,(Paris, Unesco: Bureau international d'éducation) n: 1-2 1994, p: 1

[4] يستعمل كاتب المقال هذا المصطلح الذي يقصد به الخطابات التي ألقاها بياجي حين كان مديرا للمكتب الدولي للتربية بين 1929 و 1967 وكانت توجه إما إلى مجلس هذه المؤسسة، وإما إلى المؤتمر الدولي للتكوين الجماهيري (المترجم)