أحمد
بن عبد الرحمن الصويان
بسم
الله الرحمن الرحيم
من
المسائل المتفق عليها قديماً وحديثاً : إعذار المجتهد المخالف ؛ فما زال العلماء
يخالف بعضهم بعضاً في مسائل الاجتهاد ، ولا يمنعهم ذلك من التواد والتحاب ؛ وأقوال
الأئمة في ذلك كثيرة جداً ، منها :
قال
يحيى بن سعيد الأنصاري وهو من أجلاَّء التابعين : « ما برح المستفتون يُستفتَوْن ،
فيُحل هذا ، ويُحرِّم هذا ، فلا يرى المحرِّم أنَّ المحلِّل هلك لتحليله ، ولا يرى
المحلِّل أن المحرِّم هلك لتحريمه » [1] .
وقال سفيان
الثوري : « إذا رأيت الرجل يعمل العمل الذي قد اختُلف فيه وأنت ترى غيره فلا تنهه
» [2] .
وقال
ابن قدامة المقدسي : « لا ينبغي لأحد أن ينكر على غيره العمل بمذهبه ؛ فإنه لا
إنكار على المجتهدات » [3] .
وقال
ابن تيمية : « التفرق والاختلاف المخالف للاجتماع والائتلاف حتى يصير بعضهم يبغض
بعضاً ويعاديه ، ويحب بعضاً ويواليه على غير ذات الله ، وحتى يفضي الأمر ببعضهم
إلى الطعن واللعن والهمز واللمز ، وببعضهم إلى الاقتتال بالأيدي والسلاح ، وببعضهم
إلى المهاجرة والمقاطعة حتى لا يصلي بعضهم خلف بعض ، وهذا كله من أعظم الأمور التي
حرمها الله ورسوله ، والاجتماع والائتلاف من أعظم الأمور التي أوجبها الله ورسوله
» [4] .
وهذه
المسألة على الرغم من وضوحها وجلائها واتفاق الناس عليها إلا أن في تطبيقها عند
بعض الناس خللاً ظاهراً ؛ فخلافٌ يسير في مسألة فقهية اجتهادية يسوغ فيها الخلاف
يؤدي إلى ما ذكره شيخ الإسلام ابن تيمية . نسأل الله السلامة .
ومن
المسائل الفقهية التي يتجدد حولها الجدل في البلاد الغربية خاصة في مثل هذه الأيام
، مسألة : ( إثبات دخول شهر رمضان وخروجه ) ؛ فمنهم من يرى وجوب الاعتماد على
الرؤية ، ومنهم من يرى الاعتماد على الحساب . والقائلون بالقول الأول يختلفون فيما
بينهم على أقوال : فمنهم من يرى اعتماد رؤية مكة ، ومنهم من يرى اعتماد رؤية أقرب
بلد إسلامي ، ومنهم من يرى اعتماد رؤية أي بلد إسلامي ...
ومثل
هذا الخلاف أدى في العام المنصرم في بعض المدن الأوروبية مثلاً إلى جدل عريض ، ثم
تطور إلى قيل وقال ، ثم وصل الحال إلى تراشق بالتهم عند بعضهم ، وراح بعض أتباع كل
فريق يستدعي خلافات أخرى ، ويستثير كوامن من الاختلافات القديمة .. ! ! ووقع بعضهم
فيما أشار إليه العلاَّمة القاسمي بقوله :
« غريبٌ أمر المتعسفين ، والغلاة الجافين ، تراهم
سراعاً إلى التكفير والتضليل، والتفسيق والتبديع ، وإن كان عند التحقيق لا أثر
لشيء من ذلك إلا ما دعا إليه الحسد ، أو حمل عليه الجمود وضعف العلم » [5] .
فالقائلون بالقول الأول : يرون إخوانهم قد ردوا النص الشرعي ، وساروا على
منهاج أهل الأهواء من العقلانيين الذين لا يعظمون النصوص ولا يرعون حرمتها ، وربما
عظم بعضهم هذا الخلاف ، وزعم أنه ليس خلافاً فقهياً ، بل هو خلاف منهجي ، وما
الخلاف في هذه المسألة إلا أثر من آثاره ! !
والقائلون بالقول الثاني : يرون إخوانهم قد جمدوا في فهم دلالة النص ،
فمقصود الشارع أن يتثبت الناس من دخول الشهر ، فإذا استطاعوا معرفة دخوله بأي
طريقة علمية صحيحة فثمَّ مقصود الشارع . والحساب الذي ردَّه المتقدمون من أهل
العلم كابن تيمية وغيره هو الحساب الظني الذي يكثر فيه خطأ الحسابيين واختلافهم فيما
بينهم ، أما الحساب في هذا العصر فقد تغيرت آلياته وتطورت أدواته ، وأصبحت نسبة
الخطأ فيه قليلة جداً ، والشرع لا يأتي بما يخالف العقل .
وأحسب أن حسم الخلاف بين الفريقين متعسر جداً إن لم
يكن متعذراً ؛ فمن جاء بفتوى من أحد العلماء رُدَّ عليه بفتوى أخرى مخالفة لها من
عالم آخر ، وكل عالم لدى صاحبه أوْلى بالاتباع من الآخر .
إذن ما
الحل في ظل غياب الولاية الإسلامية التي تجمع الناس على رأي واحد ؟ !
أرى أن
أمامنا خيارين :
*
الخيار الأول : أن يأخذ كل مركز بما يرى أنه الأرجح ، وعلى الأئمة ومديري المراكز
الإسلامية والمساجد أن يتقوا الله تعالى في الترجيح ، ويبذلوا الجهد في الوصول إلى
الحق الذي تبرأ به الذمَّة ، ويستشعروا عظم الأمانة المناطة في أعناقهم .
ثم
ينبغي لكل مركز ومسجد أن يقدر رأي الآخرين الذين خالفوه ، ويلتمس لهم العذر ،
ويذبَّ عنهم ، ولا يسمح بالجدل والمراء .
وهذا
الرأي وإن كانت نتيجته تفريق الناس في المدينة الواحدة ، إلا أن فيه قطعاً لمادة
الخلاف والتنازع ، وسداً لأبواب الغيبة والنميمة ، قال ابن تيمية :
« .. وإن رجح بعض الناس بعضها [يعني : بعض
الاجتهادات] ولو كان أحدهما أفضل ؛ لم يجز أن يظلم من يختار المفضول ولا يذم ولا
يعاب بإجماع المسلمين ، بل المجتهد المخطئ لا يجوز ذمه بإجماع المسلمين ، ولا يجوز
التفرق بذلك بين الأمة » [6] .
*
الخيار الثاني وهو الأوْلى والأرجح : أن يجتمع أهل الرأي من الأئمة ومديري المساجد
والمراكز ويتدارسوا المسألة ، ثم يخرجوا باتفاق موحَّد ؛ ويتطلب هذا حرصاً من
الجميع على ضرورة التآلف والاتفاق ، والالتزام بقول النبي صلى الله عليه وسلم : «
تطاوعا ولا تختلفا » [7] . فليس المقصود أن ينتصر المرء لرأيه ، بل المقصود هو
تحقيق المصلحة الشرعية ؛ فمفسدة التدابر والتنابذ والتقاطع أعظم أثراً وأشد خطراً
من الأخذ بأحد القولين ؛ لأن غاية ما في أحدهما أنه اجتهاد مرجوح يثاب عليه صاحبه
بأجر واحد ، وأما الاختلاف فكما أنه يزيد من الشرخ المستشري في جسد العمل الإسلامي
، ومدعاة لسخرية غير المسلمين من المسلمين ؛
فهو مخالف لمقصود الشارع الذي أمر بالتعاون على البر
والتقوى ، قال الله تعالى : ] وَلاَ تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا
وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ البَيِّنَاتُ [ ( آل عمران : 105 ) .
أنا لا
أدعو إلى المثالية في إنهاء الخلاف برمته ؛ فهذا أمر غير واقعي على الإطلاق ، ولو
سلم منه أحد لسلم منه أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ، ولكن الذي نهى عنه علماء
السلف والخلف : هو أن يتحول الخلاف إلى صراع وتصادم وشقاق . قال الإمام الشاطبي
نقلاً عن بعض المفسرين : « فكل مسألة حدثت في الإسلام فاختلف الناس فيها ولم يورث
ذلك الاختلاف بينهم عداوة ولا بغضاء ولا فرقة علمنا أنها من مسائل الإسلام ، وكل
مسألة طرأت فأوجبت العداوة والتنافر والتنابز والقطيعة علمنا أنها ليست من أمر
الدين في شيء ، وأنها التي عنى رسول الله صلى الله عليه وسلم بتفسير الآية ، وهي
قوله تعالى : ] إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً [ (
الأنعام : 159 ) .... فيجب على كل ذي دين وعقل أن يجتنبها ، ودليل ذلك قوله تعالى
: ] وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ
بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً [ ( آل عمران : 103 ) ،
فإذا اختلفوا وتقاطعوا كان ذلك
لحدثٍ أحدثوه من اتباع الهوى . هذا ما قالوه ، وهو
ظاهر في أن الإسلام يدعو إلى الألفة والتحاب والتراحم والتعاطف ؛ فكل رأي أدى إلى
خلاف ذلك فخارج عن الدين » [8] .
وها هنا
مسألة جديرة بالاهتمام : فإذا آمنا بأن مسألة ( إثبات دخول الشهر وخروجه ) مسألة
خلافية يسع فيها الاجتهاد ، فهل يصح للإنسان أن يترك الرأي الراجح الذي يراه ،
ويأخذ بالرأي المرجوح ، من أجل توحيد الكلمة وتأليف القلوب وتجميع الصفوف ودرء
النزاع والتدابر ؟ ! أم أن ذلك من التفريط والتمييع والتساهل والاجتماع على أرض
هشة ؟ !
والحق
الذي لاريب فيه أنَّ مصلحة الاجتماع والائتلاف أوْلى ، وترك الرأي الراجح تحقيقاً
لهذه المصلحة ممَّا دلَّ عليه الشرع المطهر ، وإذا تعارضت المصالح ، فتحصيل
المصلحة الأعلى مقدم على المصلحة الأدنى ، كما هو مقرر في علم الأصول ، قال ابن
تيمية : « .. ولا يجوز أن تجعل المستحبات بمنزلة الواجبات يمتنع الرجل من تركها
ويرى أنه قد خرج من دينه أو عصى الله ورسوله ، بل قد يكون ترك المستحبات لمعارض
راجح أفضل من فعلها ، بل الواجبات كذلك .
ومعلوم أن ائتلاف قلوب الأمة أعظم في الدين من بعض
هذه المستحبات ، فلو تركها المرء لائتلاف القلوب كان ذلك حسناً ، وذلك أفضل إذا
كان مصلحة ائتلاف القلوب دون مصلحة ذلك المستحب ، وقد أخرج البخاري ومسلم في
صحيحيهما :
عن عائشة أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال لها : «
لولا أن قومك حديثو عهد بجاهلية لنقضت الكعبة ولألصقتها بالأرض ، ولجعلت لها باباً
يدخل الناس منه وباباً يخرجون منه » [9] . وقد احتج بهذا الحديث البخاري وغيره على
أن الإمام قد يترك بعض الأمور المختارة لأجل تأليف القلوب ودفعاً لنفرتها ، ولهذا
نص الإمام أحمد على أنه يُجهَر بالبسملة عند المعارض الراجح ، فقال : يجهر بها إذا
كان بالمدينة .
قال القاضي : « لأن أهلها إذ ذاك كانوا يجهرون ،
فيجهر بها للتأليف وليعلمهم أنه يقرأ بها ، وأن قراءتها سنة ، كما جهر ابن عباس
بقراءة الفاتحة في صلاة الجنازة » [10] .
إذن
فالمسألة تحتاج إلى فقه رشيد يتسع فيه الصدر ، ويسمو فيه المرء عن أهوائه ؛ فليس
الفقيه هو الذي يتعصب لرأيه ، أو يشدّد على الناس ، وقديماً قال
الثوري : « إنما العلم عندنا الرخصة من ثقة ، فأما
التشديد فيحسنه كل أحد » [11] .
وكأني
بقائل قد يقول : إننا معاشر أهل الحق إذا تنازلنا عن رأينا في مسألة فقهية
اجتهادية من أجل اجتماع الصف ؛ قادنا ذلك إلى التنازل في مسائل منهجية وعقيدية
أخرى فيكثر الخلط ، وتتميع الصفوف .. !
وهذا
تحفُّظ مردود ؛ لأنَّ التنازل في مسائل منهجية وعقيدية انحراف غير سائغ ، وهو
مخالف للسبيل الشرعي الذي سلكه سلفنا الصالح ، ولكن الذي ندعو إليه هو التحاور
والتطاوع في مسائل اجتهادية يسع فيها الخلاف تحقيقاً لمصلحة أعظم نفعاً بإذن الله
، ومراعاة لقاعدة تعد من أعظم قواعد الإسلام وأصوله ، وهي :
الاعتصام بحبل الله تعالى ، وترك التفرق والاختلاف
المذموم ، وها هو ذا عبد الله ابن مسعود رضي الله عنه يترك رأيه بقصر الصلاة في
الحج ويأخذ بفعل عثمان بن عفان رضي الله عنه لمَّا رأى الإتمام ؛ فلمَّا سئل عن
ذلك قال : « الخلاف شر » [12] ، وفي رواية : « إني أكره الخلاف » [13] . فهذا خلاف
في مسألة متعلقة بركن مقدَّم على الصوم ، وقعت في ذاته لا في زمانه ، ومع ذلك فقد
تطاوع الصحابة رضي الله عنهم ولم يختلفوا ؛ فللّه دَرُّهُمْ ! وما أحوجنا للاهتداء
بهديهم .
اللهم
اجمع كلمة المسلمين على الحق ، وأعذهم من نزغات الأهواء .
________________________
(1) جامع بيان العلم وفضله (2/903) .
(2) الفقيه والمتفقه (2/69) .
(3) الآداب الشرعية ، لابن مفلح الحنبلي (1/186) .
(4) خلاف الأمة في العبادات ومذهب أهل السنة والجماعة
، لابن تيمية ، ضمن مجموعة الرسائل المنبرية (3/116) .
(5) الجرح والتعديل ، للقاسمي (ص 37) .
(6) خلاف الأمة في العبادات ومذهب أهل السنة والجماعة
، لابن تيمية ، ضمن مجموعة الرسائل المنبرية (3/124) .
(7) أخرجه بهذا اللفظ مسلم في كتاب الجهاد والسير رقم
(1733) .
(8) الموافقات (4/186 187) .
(9) أخرجه البخاري ، رقم (26 ، 1583 ، 1584 وغيرها) ،
ومسلم (2/968 973) .
(10) خلاف الأمة في العبادات ومذهب أهل السنة
والجماعة لابن تيمية ، ضمن مجموعة الرسائل المنبرية (3/124 125) .
(11) جامع بيان العلم وفضله (10/784) .
(12) أخرجه : أبو داود ، رقم (1960) .
(13) أخرجه : البيهقي (3/144) والحديث أصله في صحيح
البخاري ، رقم (1084 ، 1657) .
0 التعليقات:
إرسال تعليق