time GMT

الخميس، 19 يناير 2012

أبناء الطلاق وجحيم العلاقة مع أحد الأبوين


بعضهم يكره بدل أن يحب وبعضهم يهمل بدل أن يهتم

أحيانا قد يكون الطلاق بين الزوجين مخرجا من المشاكل التي تنغص عليهما حياتهما المشتركة. لكن أحيانا أخرى قد يكون الطلاق بابا إلى مشاكل من نوع آخر. مشاكل لايعرفها المطلقون من غير أبناء، لأن مصدر هذه المشاكل يعود في الأصل إلى وجود الأبناء.

منقدرش نسى داك الشي اللي مدوز على مي



"مكنحملش نشوفو أصاحبي"، عبارة مفاجئة التقطتها "الحياة" صدفة في أجواء عيد الأضحى الأخير من فم أحد الشباب، وقد قالها في حق أبيه المطلق لأمه منذ كان هو طفلا رضيعا. سمير، وهذا اسم الشاب، اشتدت عليه مناشدات بعض من أصدقائه الذين استنجد بهم والده بغرض إقناعه بقبول زيارته بمناسبة العيد. لكن سميرا ظل متشبثا بالرفض. وأمام إصرار أصدقائه، لم يجد في النهاية غير تلك العبارة لفك الطوق عنه، وهو يلوح بيده دلالة على التضايق، قبل أن يبتعد وعيناه مغرورقتان بالدموع.
يبلغ سمير من العمر ستة وعشرين سنة. ومنذ كان في سنته الثانية وهو يعيش في بيت جديه بعدما انفصلت أمه عن أبيه. وطيلة هذه المدة، لم ير أباه وعائلة أبيه إلا لمرات قليلة، كما صرحت والدته بذلك لـ"الحياة". أما السبب، حسب والدته دائما، فهو عدم اهتمامهم به، "إنهم لايريدونه. لو كانوا يريدونه ألم يكونوا ليسألوا عنه، أم لا؟". الأم عددت أمام "الحياة" صورا مختلفة عن معاناتها من أجل الحصول على حضانة ابنها، "لم يدَعوا شيئا لم يجربوه لحرماني من حضانته، وعندما تغلبت عليهم وحصلت على حضانته أهملوه تماما وكأنه غير موجود".
لماذا لا يتحمل سمير رؤية أبيه كما قال؟ سؤال طرحناه عليه، فكان جوابه بعدما رفض في البدء الحديث عن الموضوع: "إنه يستحق"، قبل أن يطرح هو الآخر سؤالا: "هل هناك ابن سيكره أباه لو كان هذا الأب صالحا؟". سمير، إذن، يكره أباه، كما جاء أخيرا على لسانه. لذلك، طلبنا منه بسط أسباب هذه الكراهية، فقال وعلامات الحرج بادية عليه: "منقدرش ننسى كاع داك الشي اللي مدوز على مي". "بحال آش؟"، تسأل "الحياة"، فيجيب: "بزاف.. بزاف ديال الهضرة.. بزاف.". عند هذا الحد فقط عادت إلى سمير سورة الكآبة واغرورقت عيناه ثانية، فاكتفينا منه بذلك دفعا لمزيد من الإحراج وغادرناه إلى والده. ووالده رجل في الخمسينات، موظف بإحدى الضيعات النموذجية، متزوج من امرأة ثانية، وله منها ثلاثة أبناء. يقول مولود، وهذا اسم الوالد، ردا على أسئلة "الحياة" :"الناس عندنا غير واعين. فعندما تتواجه مع أحدهم في المحكمة لتدافع عن نفسك وليدافع هو الآخر عن نفسه يظن أنك تعاديه. ألم توجد المحكمة لنتخاصم أمامها، وعندما تحكم يرضى الجميع بحكمها؟ لكن زوجتي الأولى عندما حصلت على حضانة سمير أصرت على العداوة هي وعائلتها وقاموا بتربيته على هذا الأساس". وحول امتناعه عن السؤال عن ابنه وعدم زيارته إلى درجة النسيان، كما صرحت لنا الأم بذلك، نفى مولود الأمر جملة وتفصيلا، شارحا ما وقع على طريقته: "لما كان سمير صغيرا، كنت أزوره وفق ما تسمح به ظروفي. وقتها، لم يكن الأمر يطرح مشكلا، لكن لما كبر قليلا وبدأ يعرف بعض الأشياء أصبح هو الذي يرفض رؤيتي. لقد لقنوه أن يكرهني". مولود أصر أيضا على أن يقدم لنا ما يعتبره دليلا على حبه واهتمامه بابنه عندما طلب منا سؤال زوجته الأولى إن كان ملتزما حقا ومن غير انقطاع بأداء مصاريف الحضانة التي حكمت بها عليه المحكمة، كما أكد أنه مستعد لإحضار من يشهد له بأنه قبل سنتين عرض على ابنه عن طريق الوسطاء أن يتكفل بمصاريف هجرته إلى إيطاليا بطريقة غير مشروعة طبعا، وذلك من أجل ضمان مستقبله، كما قال.

لا أفتقدها

بين الاتهامات المتبادلة بين الأم وزوجها الأول، تبقى الحقيقة الوحيدة المؤكدة هي حالة الكآبة التي تلف سميرا، كلما أثير الموضوع أمامه، وهي حالة بقدر ما يمكن أن تؤشر إلى عدم سلامته النفسية، فإنها أيضا تجمع بينه وبين مجموعة أخرى ممن التقت بهم "الحياة"، والذين حكم عليهم الطلاق المبكر بين آبائهم وأمهاتهم بأن يعيشوا في المنطقة الملتبسة والمعقدة التي يتجاذبها الحب والكراهية. ومن هذه الحالات التي وقفت عليها "الحياة" عن كثب حالة نعيمة، وهي أستاذة للتعليم الثانوي الإعدادي في منتصف الأربعينيات. نعيمة هي الأخرى من بنات الطلاق المبكر، حيث افترق أبوها عن أمها وهي بعد في مرحلة الرضاع. وبحسب ما تحكيه والدتها، فقد قام مطلقها بنزع نعيمة في سبعينيات القرن الماضي من حضنها وسلمها لوالدته ثم لزوجته الثانية كي تقوما بإكمال رضاعتها. الأم التي لم تقو على مداراة دموعها استعرضت أمام "الحياة" فصولا طويلة من جحيم فراق ابنتها، خاصة وقد حرمت من رؤيتها حتى حدود سنتها الرابعة من التعليم الأساسي، ولما كتب لها أخيرا أن تراها لأول مرة وجدت كائنا آخر يمكن أن يكون أي شيء آخر إلا ابنتها التي من صلبها: "لقد رفضت أن تعرفني. ومن يدري ماذا قالوا لها عني أو أي سحر أعطوه إياها". وحتى لما كبرت نعيمة واستقلت بنفسها، فإن عدد المرات التي التقت فيها الأم بابنتها لا يتجاوز خمس مرات في أكثر من عشرين سنة، ثلاث مرات بمبادرة من الأم، ومرتان بمبادرة من الابنة. وعلى ذلك تختم الأم قائلة: "إن لها الآن عقلها. وإذا كانت تجهل حقيقة ما حصل فلتسأل الناس. أما أنا فقد بدأت أتعب". أما نعيمة، فهي في الحقيقة لا تكره أمها، كما صرحت لـ"الحياة"، لكنها لا تجد، كما قالت، دافعا في داخلها للاستمرار في تذكرها، وبالتالي الإكثار من زيارتها: "بصراحة، لست في حاجة حقيقية إليها. إنني لا أفتقدها. ثم إن ما تقوله عن أبي وعائلته يؤلمني كثيرا". لكن نعيمة، مع ذلك، لم تستطع أن تداري في حضور "الحياة" صورة الكآبة الملتبسة التي استوطنت ملامحها هي الأخرى، بعد أن أصبحت حديثا امرأة مطلقة تربي طفلا صغيرا بعيدا عن أبيه.
لم يشأ والد نعيمة أن يتحدث إلى "الحياة" عن موضوع ابنته. وإذا كان قد اعتبرنا نحشر أنفسنا في ما لا يعنينا، فإن ثمة أطرافا أخرى يعنيها الموضوع كله، بل ويشكل لها مصدر معاناة. والمقصود هنا هم إخوة نعيمة وإخوة سمير وغيرهما من أبناء الطلاق الذين طالما سمعوا بأن لهم  إخوة آخرين من آبائهم أو من أمهاتهم لكنهم لا يحظون منهم بما يفترض أن حظى به الأخ من أخيه. وقد التقت "الحياة" أكثر من حالة، ومنها حالة إلياس الذي له أخ من الزوجة الأولى لأبيه. وإذا كان قد بحث عنه وسعى أكثر من مرة إلى ملاقاته، فإن الآخر ظل يرفض أية علاقة أخوة عادية. "ومللي كنحصلو كيدير بحال يلا عندو معايا شي حساب"، يقول إلياس.

واش ف خبار القانون؟

ضد الطبيعة هي حكايات بعض من أبناء الطلاق في علاقاتهم بآبائهم أو أمهاتهم أو إخوانهم. بعضهم يكره بدل أن يحب، وبعضهم يهمل بدل أن يهتم. لماذا إذن يحتل الحقد والإهمال أحيانا مكانا منذورا في الأصل للحب والحنان؟ في الغالبية من الحالات التي تنقلت بينها "الحياة"، يتكرر سناريو خاص: لا يأخذ الابن أو البنت موقفا سلبيا من أحد أبويهما المطلقين إلا ويكنان تقديرا إيجابيا جدا للآخر الذي تربيا معه. كراهية أو إهمال مقابل تحيز مبالغ فيه. وهو وضع من الممكن أن يضع التربية التي تلقاها الابن أو البنت موضع اتهام، خاصة حين تبدو أغلب التبريرات التي يقدمها الأبناء وكأنها مأخوذة مما يقوله الأب أو الأم، الذي أو التي تربيا معه أو معها. فهل يخضع بعض أبناء الطلاق لتحريض ممنهج من طرف أحد الوالدين ضد الآخر؟ سؤال، بقدر ما هو كفيل باستنفار أهل السوسيولوجيا وعلم النفس،  فهو أيضا حري باستنفار القانون، باعتبار أن الاحتمال الذي يتضمنه، إذا صح فعلا، فإنه يضرب عرض الحائط بحق من حقوق بعض الآباء في الحصول على علاقة سوية وعادية مع أبنائهم الذين من صلبهم برغم ظروف الطلاق.

0 التعليقات:

إرسال تعليق